المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليلة غاب عنها القمر



اسيرة كورابيكا
23-05-05, 05:07 PM
* نجيب ال?يلاني
منذ سنوات بعيدة كنت أعمل طبيباً في إحدى القرى النائية، والحياة في القرى ليست حياة شاعرية هانئة دائماً كما يصورها بعض الشعراء، صحيح أن الأشجار الخضراء، والحقول الجميلة، والسماء الزرقاء الصافية، والبساطة الواضحة والقناعة والصبر، والرضا بما قسم الله، كلها تشكل لوناً من الحياة بعيداً عن التعقيد والضوضاء والصراع القاسي، وفي أحد الأيام تغير كل شيء، تحول الهدوء إلى عواصف ثائرة، وأصبحت جنة الأمن جحيماً من الخوف والشك، وكاد دولاب العمل أن يتوقف ...
لقد حدث خلاف في ((سوق القرية)) بين أحد التجار من قريتنا وعميل له من قرية مجاورة وتبودلت الاتهامات ثم الشتائم، وتحول سوق القرية في دقائق إلى معركة دامية، سقط على أثرها قتيلان من القرية المجاورة .. بالإضافة إلى عدد آخر من الجرحى .. وكان هذا بداية صراع عنيف بين القريتين .. والغريب في الأمر أن مصالح القريتين متشابكة، وأواصر القربى والمصاهرة تربط بينهما، بل أن مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تملكها قريتنا، تقع في زمام القرية المجاورة .. وبات واضحاً أن تلك القرية تريد أن تثأر لقتيليها. والثأر هناك شرف وكرامة، ويا ويل من يفرط في ثأره عندهم ...
إنه لا يستحق الاحترام .. بل حرام عليه أن يعيش، ويلتقي مع الناس .. وقررت القرية المصابة أن تقتل أي وافد من القرية المعتدية مهما كانت مكانته .. لابد أن يقتلوا إثنين .. أي إثنين .. وهكذا توتر الموقف، ولم يعد في إمكان المزارعين الذهاب إلى حقولهم هناك، كما أصبح متعذراً السفر إلى المدينة، لأن طريق المسافرين يمر بالقرية المنكوبة ..
وكان ليل الصيف الهادئ تقطع سكونه طلقات الرصاص المنذرة المتوعدة، كما أن رسائل التهديد تتبادل بين الجانبين ..
كنت أجلس في ((الوحدة الصحية)) التي أعمل بها أرقب الأحداث في قلق، وأفكر في طريقة لحسم هذا النزاع المخيف الذي ينذر بمزيد من الدماء والحرائق والدمار .. وكان قلقي يزداد كلما تذكرت أن ((العيادة)) تقع بين القريتين .. بين شقي الرحى .. وأنها في العادة تستقبل المرضى من هنا وهناك .. إنه وضع شائك لا شك ..
وفي إحدى الأمسيات التي لا أنساها حدث أمر محير .. كانت ليلة من ليالي أواخر الشهر العربي .. ليلة بلا قمر .. وكنت جالساً أمعن النظر في النجوم، وأستمتع بالهدوء والهواء العليل .. أمام مسكني داخل الوحدة الصحية .. وانشق الظلام فجأة عن أربعة من الرجال يحملون السلاح ..
نظرت إليهم، فلم أستطع النهوض من مقعدي .. ودق قلبي في خوف .. وسال عرقي غزيراً .. لم أكن أدري ماذا أفعل .. إنهم من سكان القرية المصابة .. فكرت بسرعة .. لقد قدموا للأخذ بالثأر .. وأنا واحد من أهل القرية المعتدية .. وأسرتي منهم .. لقد فكروا في صيد سهل ثمين فلم يجدوا أحداً سواي .. أخذت أعض بنان الندم .. لكن ماذا يجدي الندم؟؟ كان يجب ألا أبقى هكذا وحيداً في هذا الوقت من الليل، وخاصة أن الوحدة الصحية تحيط بها أعواد الذرة العالية فتشكل ما يشبه الغابة القاتمة الضخمة تحت ستار الليل المدلهم .. أأصرخ؟؟ أأستغيث بالحارس المسلح؟؟ هراء!! إن البنادق في أيديهم .. وطلقة واحدة سوف تخرس صوتي إلى الأبد لكني دون وعي مني هتفت بأعلى صوتي منادياً الحارس!
ـ ((عبدالواحد .. يا عبدالواحد .. )).
لكن رجلاً منهم قدم نحوي في هدوء وربت على كتفي في حنان وهو يقول في نبرة صدق لا تخفى على مَن عاشر هؤلاء الناس:
ـ ((لا تخف يا دكتور .. نحن لا نؤذي مَن يخفف عنا الآلام، ويشفي الجراح .. أنت بالذات لا دخل لك فيما حدث .. أنت منا ونحن منك .. )).
قلت وجسدي كله يرتجف:
ـ ((ماذا تريدون إذن))؟
قال:
ـ ((إن امرأة وضعت جنينها منذ أربعة أيام .. وهي في حالة من السوء يرثى لها .. إذا لم تنجدها فستموت .. )).
نظرت إلى الرجال الأربعة كانت البنادق معلقة في أكتافهم واستطعت أن أميزهم بعد أن هدأ روعي قليلاً إنني أعرف أسماءهم، وقد استقبلتهم في العيادة كثيراً .. وهنا قدم الحارس عبدالواحد مسرعاً .. كان هو الآخر ممسكاً ببندقيته، وقد صوبها نحوهم .. لكنهم لم يبدوا حراكاً ..
قلت لعبدالواحد، وأنا أتنفس الصعداء:
ـ ((أنزل سلاحك .. )).
لكنه بقي على وضعه، وقال في فظاظة:
ـ ((ماذا تريدون؟)).
رد أحدهم:
ـ ((كن عاقلاً يا عبدالواحد .. )).
ـ ((الغدر في دمكم .. )).
ـ ((اعقل يا عبدالواحد .. )).
قمت من مكاني بعد أن استعدت رباطة جأشي، ووضعت يدي على بندقية عبدالواحد وأنا أقول:
ـ ((نحّ هذه بعيداً، واذهب واستدع الممرضة (صفاء). ولتوقظها إن كانت نائمة .. )).
وصرخ عبدالواحد في دهشة:
ـ ((أتذهب معهم يا دكتور؟ .. )).
قلت في حزم:
ـ ((اذهب، ونفذ ما أمرتك به)).
ومضى عبدالواحد في تثاقل، لم يكن الأمر بسيطاً بالطبع، كيف أذهب إلى القرية الجريحة، ودماء ضحاياها لم تجف؟؟ أليس هناك احتمال ولو واحد بالمائة أن يثأروا مني؟؟ كنت أعاني من صراع داخلي عنيف لا يعلم إلا الله مداه، ومع ذلك فقد كنت أجد نفسي منساقاً إلى تلبية رجائهم، والذهاب إلى قريتهم، تحت جنح الظلام، إن نداء في داخلي يدعوني للذهاب .. وجاءني صوت أحدهم والحيرة تمزقني:
ـ ((أرواحنا فداؤك يا دكتور .. ولن تعض قريتنا اليد التي تقدم لها الإحسان .. )).
قلت متلعثماً:
ـ ((استغفر الله ... أنا في خدمتكم دائماً .. )).
وفي وقت قصير تجمع كل العاملين بالوحدة الصحية، من فراشين وممرضين وممرضات، وحدث لغط شديد، وأجمعوا على ألا أذهب، ولتذهب المريضة إلى الجحيم .. لكنني قلت في هدوء:
ـ ((بل سأذهب!! مَن سيأتي معي!؟)).
قالت صفاء:
ـ ((لن أتركك .. )).
وقال ((فني المختبر)) رضوان:
ـ ((وأنا أيضاً .. )).
وصاح عبدالواحد الحارس:
ـ ((رجلي على رجلك .. أنا هنا ممثل الحكومة .. ولن أفارقك .. )).
وخرج الموكب الصغير من الباب الخلفي للوحدة الصحية، وشق طريقه الضيق في الظلام الدامس، وعن اليمين واليسار تمتد حقول الذرة القاتمة كجبل أخضر، ننطلق في واديه الضيق .. وكان وقع أقدامنا يتردد صداه في الصمت الرهيب .. وبعد ربع ساعة كنا ندلف إلى شوارع القرية وحاراتها الضيقة، وأخذنا نخرج من زقاق لندخل في زقاق آخر .. وفي المكان المقصود وجدنا عشرات من لمبات الكيروسين المشتعلة وقد حملتها النسوة المتشحات بالسواد على جانبي الطريق .. كنت أسمعهن وأنا أسير في الطريق المترب الضيق وهن يرددن عبارات كثيرة تحمل معاني التقدير والعرفان بالجميل:
ـ ربنا يستر عرضك ..
ـ الله يحميك لشبابك ..
ـ أصيل وابن ناس .. وما أن دلفت إلى بيت المريضة، وهو بيت صغير يشبه الكوخ، حتى سمعتها تصيح وتستغيث، وتهتف: ((ارحموني))، ((الرحمة يا رب)).
كانت ممددة فوق حصير مهترئ، ورأسها يتحرك يميناً ويساراً، وهي تعاني من كرب شديد، وظلال الآلام المبرحة تنعكس على وجهها الشاحب النحيل، وطفلها الوليد ملقى إلى جوارها يصرخ ..
وبعد فحصها تبين أن ثديها قد أصيب بخراج كبير، وإن شدة الالتهاب والصديد المخزون بداخله، قد سببت لها الحمى والآلام المبرحة .. وكان لابد من إجراء جراحة عاجلة، عبارة عن شق طولي لإفراغ الصديد، وإعطائها بعض المسكنات والمضادات الحيوية .. ولم نضيع وقتاً .. كانت صفاء تتحرك إلى جواري في خفة، وأمكننا أن نستعمل التخدير السطحي، إذ لم نكن نملك غيره ..
كانت عناية الله ترعانا .. وما أن وضعت المبضع وشققت الثدي حتى تدفقت كمية كبيرة من مخلفات الالتهاب .. أثناء العمل نسيت كل شيء، لم أعد اشعر بشيء من الخوف أو التردد .. وأنهينا كل شيء على وجه السرعة .. وشعرت بسعادة لا مثيل لها وأنا أرى المريضة تتنهد في ارتياح .. ثم تدخل تدريجياً في نوم هادئ، وقد انفرجت أسارير وجهها، وبدا عليها الاطمئنان والرضا .. إنها لحظات من أغنى وأروع وأمتع لحظات الحياة .. وانطلقت زغرودة تردد صداها في أفق القرية الحزين ..
وفي طريق العودة قال عبدالجبار وهو أحد الرجال الأربعة:
ـ ((لن ننسى لك هذا الفضل ما حيينا .. لو طلبت حياتي لقدمتها لك .. )).
قلت:
ـ ((أنا لا أطلب سوى شيء واحد يا عبدالجبار)).
ـ ((أطلب تجد ... عبدالجبار لن يخون العهد .. )).
ـ ((أن يعود الصفاء والوئام .. )).
ـ ((تقصد الصلح يا دكتور؟؟)).
وصمت عبدالجبار لحظات، فأردفت قائلاً:
ـ ((المسلمون إخوة .. ولنعقد مجلساً للصلح .. وما يحكم به الرجال يكون واجب السداد .. بذلك نسد الثغرة التي ينفذ منها الشيطان .. )).
ثم أمسكت بكتفه وهززته في ود:
ـ ((مد يدك وعاهدني يا عبدالجبار .. )).
وانطلق صوت المؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر، ومد عبدالجبار يده قائلاً: ((أعاهدك)) ..
عندما عدت إلى الوحدة الصحية، وجدت حشوداً كبيرة من أهل القرية .. كانوا يحملون السلاح ويهددون ويتوعدون .. كانوا يتوقعون أن أعود إليهم جثة هامدة، ووجدت عمدة القرية يسدد إليّ نظرات عاتبة ويقول:
ـ ((لقد كدت تقضي على مستقبلك من أجل مغامرة طائشة؟)).
قلت في هدوء:
ـ ((عفواً يا حضرة العمدة .. إن ما فعلته كان من أجل الواجب .. من أجل الله .. فلنذب لصلاة الفجر .. )).
وفي أيام قليلة عاد السلام ينشر أجنحته البيضاء على الربوع الخضراء في القريتين الوادعتين.

بوحمد
25-05-05, 11:57 PM
اختى / اسيرة كورابيكا
شكرا لك على هذه القصة
ولك ألــ تحية ـــف
لك ألـ صحة و عافيه ـــف