المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صيد الياسمين



اسيرة كورابيكا
23-05-05, 05:00 PM
* جون ريفن سكروف
السرير رقم 6, ترقد في صمتها, الفتاة الحزينة (ياسمين). هكذا أُدعى أنا أيضا. لكنّ الأسماء محض نعوت قشرية, تطفو كالزبد, متأرجحة فوق سطح الماء. غير أن أمورا أكثر عمقًا وأصالة كانت تربط بيننا. تلك الأمور التي جعلتها ترتاح إليّ وحدي, والتي جعلتني لا أقضي يوم عطلتي إلا إلى جوارها.
كان اليوم صعبا. عنبر المستشفى يئنُّ بالمرضى, الأمر الذي جعل نهاري كله مشحونا بالعمل: تفريغ السلال جوار الأسرّة, ملء نماذج التقارير الخاصة بالمرضى, تبديل الضمادات وتغيير الملاءات. وأخيرا, في نهاية اليوم تقريبًا, تمكنت من اقتناص بضع دقائق لإعداد فنجان من القهوة, أخذته إلى حيث المقعد البلاستيكي برتقالي اللون جوار سريرها. كم أشعر بالامتنان لتلك الدقائق التي أنعم فيها بصحبة هذه الفتاة.
- (ياسمين, كيف حالك?).
أقولها, وكأنني أرحب بنفسي. غير أنها لم ترد. (ياسمين) لا تردُّ مطلقا في الواقع, كانت تمرُّ بحالة اكتئاب أخذتْها حتى العمق. كانت, مثلي تماما, إحدى ضحايا البحر. أنا أيضا كنت ابنة لأحد الصيادين, ربما من أجل هذا, تخرج الكلمات من فمي متقطعة وخاطفة, مثل طُعْمٍ في صنارة صيد. أصبُّ الكلمات في أذنيها, ثم أتخيلُها تغطسُ في عمق الماء البارد داكن الزرقة. هكذا كلَّ يوم, ألقي كلماتي عميقا صوب الأسفل, تماما حيث ترقد صديقتي.
- (كان يومي مشحوناً, لم يكن لدي متسعٌ من الوقت لفعل شيء).
قلتُها, بينما أمسحُ بأناملي على شعرها.
مع فتاة كهذه, يكون من الصعب جدا مقاومة لمسها, كانت (ياسمين) من هؤلاء النساء ذوات الجمال شديد الندرة. من أجل هذا, كان الناس يختلقون الأسباب من أجل المرور في فضائها. أكثر من مرة ضبطتهم يشربونها, يمضغون تفاصيلها. كانوا جميعا (باراكودا) تلك الأسماك الضخمة. حتى الممرضون الذين يدفعون المقاعد المتحركة ذات العجلات, لا بد أن يبطئوا, حدّ الزحف, حين يقتربون من سريرها. الزائرون المتجولون ذوو العيون الجسورة الجشعة. الأطباء, الذين يتوقفون فجأة, بغير مبرر, يسحبون الستائر الشفيفة الحاجبة للضوء, ثم يختبرون مجددا أشياء ليست في حاجة إلى اختبار.
الجمال الباهر هو الشيء الذي لم نتقاسمه معا, (ياسمين) وأنا, غير أني كنت سعيدة بذلك.
- (والدك قد يأتي في أي وقت), قلت لها. (قال الأسبوع الماضي إنه سوف يأتي). لم تقل (ياسمين) شيئا. فقط ارتجف جفن عينها اليسرى, أو هكذا خُيّل إليّ.
مرّ شهران منذ وقعت تلك الحادثة فوق قارب الصيد الخاص بأبيها. الحادثة التي أدتْ إلى سقوطها من القارب إلى البحر, لتغور في عمق الماء, ثم تشتبك أطرافُها في خيوط شبكة الصيد. مرَّ وقت غير قليل قبل أن يكتشف الأمر أحد, ثم بدأ الذعر والفزع والاضطراب. نجح أبوها في تخليصها وانتشالها فوق متن القارب, ثم أبحر صوب القرية. حين وصل أخيرا, حمل إلى الشاطئ ما كان يظنّه جثمان ابنته.
- (ياسمين!). هكذا كنت أهمس. كنت أريدها أن تلتقط الاسم وحسبْ. اسمها واسمي, الذي يشبه طُعمَ الصيد, كنت أريد الاسم أن يخترقها, وتبتلعه كما سمكة وطُعْم يصادفها.
لحسن الطالع جاء طبيب شاب إلى قريتهم ذاك الصباح, ليزور أقارب له بالجوار. كان هو من استعاد الفتاة الغريقة من حافة الموت, وكان هو أيضًا من أخبرني بقصتها: (فتحتْ عينيها, نظرت إلى أبيها وقالت كلمة وحيدة, ثم غرقت من جديد, لا في الماء ثانية, لكن في الغيبوبة القاتمة).
(بارّاكودا). كانت هذه كلمة (ياسمين) الأخيرة.
حين جاء أبوها, مسح على شعرها, قبّل وجنتها, ثم جلس على المقعد البلاستيكي برتقاليّ اللون جوار سريرها, آخذا كفّها بين راحتيه. تماما مثل أبي, الكفُّ ذاتُها, الضخمة البنيّة التي خشّنتها الحياة, تلك الكفُّ التي تميز الصيادين التعساء. هو أيضا تفوح منه رائحة البحر, يتظاهر بأنه على ما يرام, هذا الرجل البائس.
(ياسمين). كم تشبهني هذه الفتاة! قواسم كثيرة بيننا, وكأننا كيانٌ واحد. أتذكّر تلك الصباحات الباكرة وشعري الذي يُمَسُّ لأستيقظ, ثم يرفعني أبي من سريري نصف نائمة, يحملني بين ذراعيه, يلقيني فوق قاربه, ثم يبحر. أسترجع صوته الخشن في مسمعي, وأسترجعُ يده الخشنة فوق جلدي, لم أرغب في الذهاب أبدًا, لكنني كنت محض طفلة, وكان هو أبًا, يفعل ما يريد.
أتذكّر الماء المالح, الشمس الحارقة, الزرقة بدرجاتها, وأمي, التي ترتعدُ هناك فوق الشاطئ فيما يصغر حجمها كلما ابتعدنا. أتذكّرُ ألواح القارب الخشبيّ وصخرةَ التثبيت, أتذكَرُ صرخات النوارس واحتجاجِها.
(ياسمين, لديك حياةٌ في داخلك, حياةٌ كاملة, ألا تسمعينها تناديك?).
لا شيء أبدًا.
صُفق باب العنبر بشدة, لمحتُ والد (ياسمين) يمشي صوبنا, حاملا باقة زهور, وابتسامة, ابتسامة لي.
حتى في الموت, الطفلة الكامنة داخلي ترى ابتسامة أبي, (ياسمين) كذلك, لا بدّ سترى الابتسامة ذاتها, ابتسامة هذا الرجل بالتحديد, الرجلُ الذي يحملُ باقة زهور, ويمشي صوبنا.
وقف جوار سرير ابنته, مسح على شعرها, بينما شيءٌ يمور بقوة في داخلي. حدّقت في وجه (ياسمين), وظللت أنتظر اختلاجة في جفن عينها اليسرى.

بوحمد
14-06-05, 06:24 AM
قصة حزينة ولكنها جميلة
شكرا لك أختي اسيرة كورابيكا على هذه القصة
اتمنى تواصلك الدائم
ولك اجمل تحيه