المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصراع



اسيرة كورابيكا
23-05-05, 04:45 PM
* آمنة الصدر
كانت فاطمة تسير وهي في دوّامة من الأفكار تتقاذفها، وتتلاعب بعواطفها المرهفة، ومشاعرها الحساسة. وكانت تحثّ خطاها، وتستعجل الوقت لكي تصل إلى حيث تريد، إلى مصدر النور والإشعاع في حياتها، ومبعث الرضا والطمأنينة بالنسبة لعواطفها وأفكارها، فهي تشعر بشعور مبهم تتمنى لو تمكنت من التغلب عليه والتخلص منه، ولكنها لا تزال ضعيفة وفي حاجة إلى ركيزة قوية تشدها وتأخذ بيدها لانتشالها مما هي فيه. وكانت تحدث نفسها قائلة:
سوف أحدثها عن كل شيء، سوف أشرح لها ما أُلاقيه من صعوبات، وسوف أعترف أمامها بأني خائفة من أن يلحقني الجبن أو أن أتراجع.
وما أن وصلت إلى البيت المقصود حتى اندفعت تطرق الباب في لهفة، وهي خائفة من الخيبة ومن عدم وجود صديقتها في البيت، وحينما انفتح الباب اندفعت تسأل عن عفاف، ولما علمت بوجودها اتجهت نحو غرفتها بخطوات مضطربة فتلاقت معها وهي قادمة لاستقبالها ببشاشتها الهادئة، فصافحتها بحرارة وسارتا حتى استقر بهما الجلوس في غرفة عفاف، وبنغمة طيبة تصحبها رنّة عتاب قالت عفاف:
ـ لقد أوحشتيني طيلة الأسبوع الماضي يا فاطمة، فأهلاً بك وسهلاً.
ولم تكد فاطمة تستمع إلى صوت عفاف، ونغمتها الرصينة الحنون، حتى سكنت جذوة ثورتها وكادت أن تنسى ما أتت لأجله، ولهذا فقد أطرقت دون أن تجيب، ومرت فترة كانت خلالها عفاف تحدق في وجه فاطمة حتى قرأت مشاعرها مرتسمة عليه، ثم تقدمت بمجلسها نحو فاطمة، وابتسمت ابتسامة عطف وتشجيع وهي تقول:
ـ أراكِ لستِ على طبيعتك يا فاطمة فهل لي أن أعرف السبب؟
وكأن هذا السؤال قد فتح أمام فاطمة باب الحديث، فقالت وصوتها يتهدج:
ـ ما أراني إلا منكرة لحالي يا أختاه، فقد تنكرت لي عواطفي، وخانتني الشجاعة بعد أن حسبت أني قد تدرعت من إيماني بدروع تعصمني من الشيطان، وتصد عني كل ما من حقه أن يصل إلى غايتي أو هدفي من قريب أو بعيد، ولكن ...
وسكتت فاطمة تحاول أن تستحضر العبارة الواضحة التي تكشف عما تعانيه، ولكن عفافاً سبقت أفكارها وقد توصلت إلى معرفة المحنة التي تعيشها صديقتها، والدور الذي تمر فيه، فقالت وكأنها تحاول أن تفتح أمام فاطمة باب الحديث، لتتعرف على جميع ما لديها وما تحسه من مشاعر، قالت:
ـ ولكن ماذا يا فاطمة؟
قالت فاطمة: ولكن شجاعتي بدأت تخونني يا أختاه، فلم أعد أطيق هذه الصعوبات التي تعترض طريق الدعوة الدينية.
قالت عفاف: وأي صعوبات هذه يا فاطمة؟ حدثيني بما لديك فلست سوى أختك في الإيمان.
قالت فاطمة: لقد آمنت بواجبنا نحن المسلمات، ومسؤوليتنا تجاه ديننا وإسلامنا الحبيب، فاندفعت أدعو إليه، وأحاول أن أستنقذ مَن أتمكن عليهن من بنات الإسلام من الواقع المرير الذي يضللهن، ولكن المجتمع يا عفاف. وسكتت فاطمة. فقالت عفاف: وما له يا فاطمة؟
قالت فاطمة: إنه مجتمع فاسد لا يقيم للمفاهيم والمثل وزناً لا ينظر إلا من وراء منظار المصالح والغايات، هذا المجتمع جعلني أشعر بمرارة لم أكن أريدها أو أرغب فيها.
قالت عفاف: أوَكنت تحسبين أن طريق الخدمة الدينية مفروش بالأزهار؟ خال من المتاعب والمصاعب؟ نحن لا ينبغي لنا أن ننكر وجود المصاعب والمتاعب، ولكن المطلوب منا أن لا نحس بقساوتها ومرارتها ما دمنا قد سرنا في طريق الله، وفي طريق الحق، ألم تسمعي قَسَم الفتاة المؤمنة الذي ينطق عن لسان كل مَن مشت في طريق الله؟
اسلامنا أنتَ الحبيبُ كلّ صعب فيك سهل
ولأجل دعوتك العزيزة علقم الأيام يحلو
والآن، حدثيني بهدوء عما أثارك يا فاطمة.
قالت فاطمة: إنه ليس بالشيء المعين يا عفاف.
قالت عفاف: ولكنه الجبن أمام التيارات المنحرفة، والخوف من الأفكار المسمومة.
وكانت عفاف تحاول بكلماتها هذه أن تثير الحمية في فاطمة، وفعلاً فقد نجحت بمحاولتها، فما كادت فاطمة تسمع كلمة الجبن والخوف حتى انتفضت مستنكرة وهي تقول:
ـ أبداً أبداً أنا لا أجبن أمام تيار، ولا أخاف من فكرة، ولكنها المضايقات، المعاكسات، عدم التجاوب، عدم التفهم و و و ...
قالت عفاف: وماذا أيضاً يا فاطمة؟ أكملي ما لديك لأجيبك عليه.
قالت فاطمة: لقد آمنت أن عليَّ أن أخدم ديني بكل صورة وبأي مجال من المجالات، وآمنت أيضاً أن العقيدة الإسلامية لا تعرف حدوداً ومقاييس عدا مقاييس الدين والعمل له ..
وهنا سكتت فاطمة وكأنها لا تعرف ما تريد أن تقول، فقالت عفاف:
ـ ولهذا فقد آلمك أن وجدت المجتمع لا يزال يرزح تحت وطأة المقاييس الخاطئة، وينظر للأفراد بمنظار المادة وداخل إطار من القشور الزائفة، أليس كذلك يا فاطمة؟
ولكن لو كان مجتمعنا مجتمعاً مثالياً يؤمن بالمفاهيم الإسلامية وينظر للفرد والمجتمع بمنظار الحقيقة لما استطاعت الدعوة التي حملنا على عاتقنا مهمتها أن تصقل نفوسنا وتتسامى بعزائمنا من خلال صعاب الطريق ومشاكله وأشواكه، ولو كنّا ندعو في مجتمع فاضل ونهجي بنات جنسنا في بيئة صالحة بصورة مواكبة للتيار بدلاً عن مجابهته كما نصنع اليوم لما كنا من الصابرين والصابرات الذين عنتهم الآية المباركة:
(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً).
قالت فاطمة: ولكنهم يستهزئون يا عفاف، إنهم يضحكون ويشمتون عندما نصب في شدة أو نمر بتجربة قاسية.
فابتسمت عفاف وهي تقول:
ـ دعيهم يضحكون قليلاً فسوف يبكون كثيراً يا فاطمة، ألم تسمعي الآية القرآنية التي تقول: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)؟ والآية القرآنية المباركة الأخرى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم).
إن القرآن الكريم قد أوضح أمامنا كل شيء، وخطط لنا طريق الدعوة بما فيه من عقبات، وبما يليه من نعيم وجنان.
إذن فنحن حينما ندعو إلى ديننا يجب أن نكون على ثقة من مواضع أقدامنا لكي لا نتأرجح للعقبات، أو نتداعى أمام السدود، علينا أن نتذكر دائماً المرحلة الأولى للدعوة الإسلامية، والمصاعب والأهوال التي صادفت الرسول الأعظم (ص)، وهو يدعو الناس إلى أن يخرجوا من عبادة أصنام ينحتونها إلى عبادة الله الواحد القهّار، ثم وهو يهذب أمة بدائية تغلغلت فيها العادات الهمجية من النهب والسلب، والقتل، والسكر، والفحشاء، والمجون، ويغرس فيها المفاهيم السماوية، والأخلاق المثالية، لتكون خير أمة أخرجت للناس.
علينا أن نتصور محمد بن عبدالله وهو سليل أشرف أسرة عرفتها الجزيرة العربية، ثم وهو أنبل رجل في قريش، يقر له بالكمال الكبير والصغير والرفيع والوضيع، ولا يسمى إلا بالصادق الأمين.
علينا أن نتصور هذا الرجل العظيم وهو يبعث بالنبوة، ويختاره الله لحمل الرسالة، فتتألب عليه العشائر، وتتكاتف ضده القبائل ويحاصر بالتهديد والوعيد، وهو صامد ثابت، لا يرجع عن دعوته، ولا يفتر عن تبليغ رسالته، ثم يقاطع ويعزل هو ومَن معه من المؤمنين وكأنه انسان منحرف، أو زعيم عصابة ضالة، ثم يتحمل أشكالاً من أساليب الإهانة والاستهزاء فيقال عنه ساحر وهو النبي، ويقال عنه كذاب وهو الصادق الأمين، ويقال عنه معلم وهو الذي يتلقى الوحي من السماء، ويقال عنه مجنون وهو أكبر عقل تقبل أفكار النبوة.
علينا أن نتصور كل هذا، ثم نتذكر دعاء النبي (ص) حينما ذهب ليدعو الناس في الطائف، فأرسلوا إليه بأطفالهم يستهزئون ويسخرون، ويرمونه بالحجارة والسباب، حتى التجأ إلى جدار هناك ورفع يديه نحو السماء وهو يقول: ((أللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين وربي، إلى مَن تكلني؟ إلى قريب يتجهمني! أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي)).
إن علينا يا فاطمة أن نتذكر خاتمة هذا الدعاء حينما يقول: ((إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي))، بعد بدايته الناطقة بالألم والأسى، فنحن ما دمنا على ثقة من صواب فكرتنا، وصدق عقيدتنا، ينبغي أن لا نتداعى أمام التهاويل والأباطيل، أو أمام المشاكل والعقبات.
تذكّري يا فاطمة أن السيدة زينب بنت أمير المؤمنين لما وقفت على جثمان أخيها الإمام الحسين في يوم عاشوراء، وهو الأخ والحامي والمعيل، قالت زينب وهي تقف على جثمان الإمام رافعة يدها نحو السماء: ((أللهم تقبل منا هذا القربان)).
نعم يا فاطمة علينا أن نتذكر كل هذا، لكي لا نستهول الأحداث التي تعترض طريقنا.
وما إن سكتت عفاف حتى استعبرت فاطمة وهي تقول:
ـ لا حرمني الله منك يا عفاف، فما أنت إلا بلسمي الشافي، ومناري الهادي، فقد أعدت لي بكلماتك الروح التي كدت أن أفتقدها، نعم أعدتيها إليّ ولكن بشكل ثابت لا يمكن أن يتزعزع أو يتأرجح، ما كان أغباني وأنا أندفع إلى اليأس يا عفاف؟
قالت عفاف: أبداً يا فاطمة إنك لت تيأسي لحظة، ولم تكوني غبيّة قط، ولكنها مشاعر تتولد من جراء بعض العوامل في المجتمع والمحيط، وإن أحسن دليل على صمودك وإيمانك أنك اتجهت إلي لأساعدك على الوقوف في المزالق التي لا يد لك بإيجادها، وإنما هي نتيجة انحراف المجتمع الجاهل المسكين، ثم لعلك قد هجرت المطالعة كما هجرتيني منذ فترة يا فاطمة؟
قالت فاطمة: أنا لم أهجرك يا عفاف، ولكنني كنت أعيش في دوامة، وكنت أخشى.
وسكتت فاطمة وكأنها تتردد في إكمال جملتها، فأردفت عفاف قائلة:
ـ كنت تخشين مصارحتي بما يعتلج في أفكارك يا فاطمة، أليس كذلك؟ ولكنك في هذا فقط كنت غلطانة يا عزيزتي، أتخشين مصارحتي وتنطوين على هذه المشاعر دون أن تخشي من عواقبها عليك ومضاعفاتها بالنسبة لأفكارك؟
قالت عفاف هذا، ثم حدّقت في عين فاطمة وهي تبتسم بلطف، فما كان من فاطمة إلا أن قالت:
ـ كوني على ثقة يا عفاف من أني سوف لن أدع للضعف سبيلاً إلي بعد اليوم، وأُعاهدك أيضاً أن أبثّك ما لديَّ من الآلام والآمال، لتكوني ملاكي الهادي كما كنت دائماً وأبداً.
فقالت عفاف: أنا لست ملاكاً يا فاطمة، وما أنا إلا أختك المحبة الناصحة لك ولجميع فتيات الإسلام.

بوحمد
21-06-05, 06:46 AM
اسيرة كورابيكا

أشكرك على هذه القصة الرائعة
ننتظر جديدك