"لقد كان واضحا لدينا أن مفهوم التراث لا يتمثل فحسب في القلاع والحصون والبيوت الأثرية وغيرها من الأشياء المادية، وإنما هو يتناول أساسا الموروث المعنوي من عادات وتقاليد، وعلوم وآداب وفنون، ونحوها مما ينتقل من جيل إلى جيل وان المحافظة الحقيقية على التراث لن تتم ولن تكتمل إلا بإعطاء كل مفردات هذا المفهوم حقها من العناية والرعاية، وقد نجحنا بحمد الله خلال السنوات الفائتة في تحقيق جانب كبير من هذا الهدف الوطني النبيل" (جلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله ورعاه).

من منطلق الخطاب أعلاه لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم وذلك بمناسبة العيد الوطني الرابع والعشرين المجيد نرى أن السلطنة تزخر بالكثير من الفنون الشعبية الموسيقية نظرا لغنى المكون الثقافي العماني وتنوعه، حيث ساعد الموقع الجغرافي للسلطنة على ثراء الثقافة العمانية وظهور البعد الإنساني في هذا المكون.

ولأجل ذلك فقد أصدرت وزارة التراث والثقافة مؤخرا كتابا يعرّف بفن البرعة إذ إن لعمان جهات انفتاح على الثقافات المجاورة مستوعبة مفرداتها، مثل الثقافة الفارسية والثقافة الهندية وثقافة السواحل الافريقية، اضافة الى الثقافة العربية المتأصلة في الاراضي العمانية منذ القدم. وقد تكيفت تلك الثقافات مع الثقافة العمانية التي نجحت في احتواء الآخر وهو الجزء، دون ان يتغلب على الكل (الأنا)، وقد انعكس ذلك على عملية التمثيل الثقافي التي تعمل على إضعاف الاختلافات التي توجد بين الأفراد أو بين الجماعات، كما تعمل على زيادة مظاهر الوحدة، وتوحيد الاتجاهات والعمليات العقلية التي تتصل بالمصالح والأهداف المشتركة، وهو ما نجده حاضرا في المجتمع العماني حيث يسود التسامح وتقبل الآخر، وهذا ما يميز المجتمع العماني عن غيره من المجتمعات. وان الثقافة العمانية المادية أو اللامادية متميزة عن غيرها من الثقافات، نظرا للتراكم الثقافي المتمثل في إيجاد وابتكار المواد الجديدة في المكون الثقافي، ونجد ذلك واضحا في العديد من المجالات الثقافية مثل الموسيقى والأكلات الشعبية، وهندسة البناء والعمارة كبناء القلاع، وشق الأفلاج، وغيرها من المجالات. ويضم كل مجال من المجالات السابقة الذكر، كنوزا ثقافية تحمل في طياتها اصالة فريدة، قلما نجد تشابها لها في أماكن أخرى، ومن تلك الكنوز فن البرعة، الذي يعد من الأنماط الموسيقية العمانية التقليدية، وسنتحدث عن تسمية النمط الموسيقي، وعن أماكن انتشاره وطريقة أدائه.

البرعة لغة

التبرع في اللغة مأخوذ من برع الرجل وبرع بالضم أيضا براعة، أي: فاق أصحابه في العلم وغيره فهو بارع، وفعلت كذا متبرعا أي متطوعا، وبرع: تعني كل شيء تناهى في جمال أو نظارة. ومن خلال بحثنا عن العلاقة بين فن البرعة وبين لفظ تبرع، وجدنا أن الشخص الذي يرغب في أداء البرعة، كان يعطي صاحب الفرقة الغنائية مبلغا من المال، أو هدية عينية من الأرز أو القمح أو الذرة، من أجل السماح له برقص البرعة، وهذه الهدية أو المبلغ عبارة عن حجز دور للمتبرع، إذ لا يسمح للجميع بالرقص، وكان مقتصرا على عدد من الراقصين المعروفين، نظرا لصعوبة الأداء وإتقان القواعد الحركية لهذا الرقص.

ومن هنا يحمل هذا الفن أحد المعاني التبرع، إما أنه براعة، أي إذا فاق الرجل أصحابه في أداء هذا الفن، وهو أداء يحتاج إلى حنكة وبراعة في أدائه، أو أن معناه مأخوذ من تبرع الراقص بماله لأجل صاحب الفرقة، لذلك ارتبط هذا الفن بالتبرع.

أماكن انتشارها

تعرف البرعة على أنها من الأنماط الموسيقية العمانية التقليدية التي تمارس في محافظة ظفار، ومنها انتشرت إلى بعض المدن الساحلية في المنطقة الشرقية مثل صور وجعلان، والأشخرة، ومن المحتمل أن يكون الاتصال البحري بين مدن المنطقة الشرقية، ومدن محافظة ظفار الساحلية (صلالة، ومرباط، وطاقة) هو العامل المساعد على انتشار هذا النمط وتغلغله الى المنطقة الشرقية، إذ يقتصر أداء هذا النمط في البيئة الساحلية لمحافظة ظفار، ولا نجد له حضورا في المناطق الجبلية من المحافظة حيث تسود أنماط موسيقية وفنون أخرى مثل (النانا، والدبرارت).

أداء البرعة

يقام فن البرعة في المناسبات الاجتماعية (الزواج، والمسيلموت) كما يقام في المناسبات الوطنية (مهرجانات الأعياد الوطنية، والمهرجانات السياحية) ويقام أيضا للتسلية ولإضفاء الفرحة والبهجة على الجمهور، من المتعارف عليه أن البرعة يؤديها اثنان من الرجال في المناسبات الاجتماعية، أما في المهرجانات الوطنية فيمكن التغاضي عن هذه القاعدة، وترك المجال مفتوحا امام أعداد كبيرة من المشاركين، دون التخلي عن الاداة الرئيسية في الاداء وهي الخنجر، وكذلك الدشداشة العمانية، إذ لا يصلح اداء البرعة الا بلبس الدشداشة والمصر أو الكمة، وهي ضروريات يحرص كل مؤد على ارتدائها قبل النزول الى ساحة الرقص، والتي تكون عادة على شكل مربع أو مستطيل، لكي تسمح بحركة المؤدين أمام الفرقة الغنائية.


حيث يجلس الراقصان على رؤوس أصابعهما أمام الفرقة ويلتقطان الخناجر التي توضع عادة على الأرض عند المغني، وعند دق الطبل يقفان، ويمسك كل مؤد بمقبض الخنجر في يده اليمنى، ويكون نصل الخنجر في اتجاه الجمهور، حفاظا على سلامة المؤدي، حينما يرفع الخنجر وينزلها في اتجاه الكتف الأيمن حسب حركة صعود القدم عن الأرض ونزولها، بينما تمسك أصابع اليد اليسرى بوسط الدشداشة مع لفها، حتى يصبح زي المؤدي متناسقا وأنيقا، للحفاظ على المظهر الحسن أمام المشاهدين الذين يحكمون على أداء الراقص ويسمون (النقاد).

يرفع الراقصان مقدمة قدميهما وينزلانها، تبعا لصوت الطبل، حتى يضبطا حركتهما، وينسجما مع الطرب، ثم يرجعان للخلف، ثم يتقدمان، ثم يرجعان، ثم يتقدمان، وحينما يبدأ صوت المرددين (الكورس) للأغنية بعد المطرب، يلف المؤديان في حركة دائرية على اليسار ثلاثة لفات، ولا يجوز أن يلف المؤديان في وسط الساحة أو في بدايتها عند المطرب وأعضاء الفرقة.

وتنتهي جولة البرعة بنهاية الأغنية، إذ يأتي راقصان آخران، ويحلان محل الاثنين المنتهية جولتهما، وكان مؤدي الرقص في الماضي يقوم بحجز أغنية يطرب لها وينسجم معها من رئيس الفرقة، ويضطر الى دفع مبلغ مالي مقابل ذلك، ولا يؤدي الراقص للبرعة إلا بوجود صديقه الذي يعرف حركات صاحبه مع الطبل، وحركة دورانه ورفع الخنجر ووضع المصر أو الكمة.

وتؤثر حركة المتبرعين على المغني إيجابا أو سلبا، فينسجم مع براعتهم في الأداء أو عدم التوافق في حركات الراقص مع صاحبه. وتستخدم في البرعة الآلات الموسيقية الايقاعية والهوائية: الناي، وطبل الرحماني، وطبل الكاسر، والمرواس، وقد طرأت مؤخرا على البرعة بعض التغيرات مثل إدخال الآلات الوترية في الغناء، ومن الذين أدخلوا العود في البرعة، الفنان محمد حبريش، والاخوان صالح وسعيد ابنا فرج الغساني، ويعد المرحوم جمعان ديوان من الشعراء الذين يغنون قصائدهم في البرعة دون مصاحبة آلات وترية.

ومن أهم الفرق الشعبية التي تمارس فن البرعة في محافظة ظفار: فرقة الأفراح للفنون الشعبية، وفرقة الأنغام للفنون الشعبية، وفرقة البهجة للفنون الشعبية، وفرقة التعاون للفنون الشعبية، وفرقة الدان للفنون الشعبية، وفرقة الشاطئ للفنون الشعبية، وفرقة الشرق للفنون الشعبية، وفرقة المجد للفنون الشعبية، وفرقة المزيونة للفنون الشعبية، وفرقة سمهرم للفنون الشعبية، وفرقة مرباط للفنون الشعبية.