هل تعاني من مشكلة بتسجل الدخول ؟ و لا يمكنك استرجاع كلمة المرور بسبب مشكله بعنوان بريديك الالكتروني المسجل بالمنتدى؟ انقر هنا لكي تتواصل معنا و سوف نقوم بمساعدتك!

أضف اعلانك هنا

كن مساهما في التطوير

صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 89

الموضوع: [you] إقرأ معي ، قصة ( العَرْبانه ) من تأليفي ، انتظرك .!

  1. #41
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الروح مشاهدة المشاركة
    أسعدك ربي يا أخ العرب ~
    أين البقية الباقية ,,أم أن سياسة شحن "الأشواق" هي المتعبة هنـــــآ ..؟؟!!
    طااال الإنتظار و بدأت أنسى ملامح أحمد و من معه ..!!!
    ..
    حفظك ربي ^^


    ههههههههههه
    عجبتني نزعة الرد .. ( سياسة شحن الاشواق ، او التشويق )
    ما يهمك .. اخوك يقول حاضر ..
    شوي بتابع وين وصلت .. وعلى فكرة انا اصلاً قاعد اغيّر
    بعض الملامح الاول .. ولكن لا يمنع ان انزلها إلى حيث وصلت ثم أزيد ..
    لا تنتظري احمد .. فمسكين هو .. ولكن معية الله اكبر .. ولله الحمد .




    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


  2. #42
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المرتاح مشاهدة المشاركة
    الجزء الثالث
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المرتاح مشاهدة المشاركة
    بعد سبع ليالٍ وعشيّة جلستْ أمي بقربي ، وأخذتْ تحكي مناقب أبي ، تُحرّضني على البقاء على نهجه القويم وأنْ لا استسلمْ لأحدٍ وإن مُتّ دونها ، فالحياة مكتوبة وكذا الموت لا احد يزيد فيه .. كل شيء عند الخالق مُقدّر ومكتوب ، لا تُنْزع الروح إلا بعلمه ، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور .. حتى الورقة التي تسقط من الشجر يَعْلمها ، كل شيء معلوم ، لا يَخفى عليه أمر .. ، فإياك إياك يا ـ ولدي ـ أن تقول أقل قِيَمة أو أرخص ثمناً من قيمته ومَعانيه الثمينة فأباك عاشَ برجولته حيّاً وماتَ عليها .. بكيت بحرقة ، ارتميت في أحضانها ، شعرتُ بقشعريرة ، ثم وَخْزةٍ تَسري في جسدي ، حقدتُّ على القائمين على هذه الوطنية ، وعلى أؤلئك الذين يسترخصون أموال الناس ، هواناً عليهم ، ذُلاً وَقَرْفاً ، يترفّعون على غيرهم بقوة مكانتهم وينسجون خُيوط باهتة ـ كخيوط العنكبوت أو هي اشدّ ضعفاً ـ ومن وقفَ في وجههم أذلّوه وأهانوه .. كما فعلوا بأبي .. أقسمتُ في داخلي ، ثم جهرتُ به لتعلمَ أمي :
    - اقسم يا أمي ، أني سأنتقم لروح أبي .. سأنتقم من تلك الأنفس التي تستحقرني وتستضعف غيري من الناس . ولكن ألا تُخبريني القصة بكل تفاصيلها الدقيقة ، كيْ تبقى مُختزلة في ذاكرتي .!
    قبّلتي أمي بين جبيني ، وراحت تسرد حكاية أبي :
    - عاش أبوك طوال حياته على ذُلٍ وهَوان ومهانةٍ وطنيّة كحال غيره من البُؤساء والمُستضعفين والمُسْتقصدين كما هو الحال في حكايتنا هذه .. فعزّتْ عليه أن يُفارقها أو يَهْرب منها ، لتبقى هذه الحكاية المَريرة شاهدةً عليها ولو لم تَعِيها أنتَ يومذاك ، ذلك لأنكَ كُنت صغيراً .. سكتتْ وهي تنغرز عينها في عيني .. ظلّ بيتنا ومزرعتنا ذاك الحقل الصغير الذي نقتات من أزهاره وثمار مزروعاته خيراً كثيراً .. وكذا استفاد منه جزء من هذه القرية المُتسامح أهلها ، فجوارنا كان لهم نصيبٌ وافر منه ، إذا كان أبوك طيباً قانعاً ، إلى أن جاء ذك اليوم المشئوم ، وامنحونا مُهلة لا تزيد عن أسبوعاً يتيماً ، كيْ نقتلع المزروعات ونحمل ما يُمكّننا حَمْله كيف شئنا وارتأينا إلى أي جهة نُريدها ، تحت اسم نزع المُلكية وذريعة المصالح الوطنية ، فبعد المُهلة التي تلقيناها بشفقة وإحسان منهم ، يكون البيت والحقلَ مَنْزوعا الملكية ، ويكونا مسحوقان ، دكّاً دكأً ، يتساوى والتراب ، في هذا اليوم وأمام عيني ، رأىتُ أغصان الأشجار والنخيل الباسقة ، تسحقها الجرّافات فتميل بعذوقها إليّ وتُخْفي ابتسامة ثمرتها فتنحني الأشجار بثمارها والنخيل الباسقات بعُذوقها فتتلألأ أغصانها ، تُوميء إلي بإشارات خفيّة لا أحد يعلمها غيري ، إشارتٌ رمزية استخدمتها أشجار الحقْل نظير تلك الألفة التي كانت بيننا ، كأنها تستغيثني وتحتمي بي .. لحظتها ، يا ـ ولدي ـ دمعتْ عيني وأنا أراني لا استطيع فِعْل شيء ، يدي مكتوفة ، وفمي مُكمّمٌ ، وصَوتي مَحْبوس ، وجسدي مُثقلٌ ، ونفسي مكلومة بأعزّ ما عند زوجي ، فهل يُعقل أن يكون هو صَريعاً فيصرع ما تركه معه .؟! لوحت أمي رأسها أسفاً وندماً غليظاً القلب ، كأنما فظٌ نزل بها فجأة ، ثمّ نظرتْ إليّ بقوة ، واهتزّت مع كل حرف ، كمْ تمنّى أباك أن تكبر لتشهد على كل شيء ، كانت أُمْنِيّته تربيتك أحسن تربية ، على أخلاقيات الرجولة والعزّة والشرف وقيمٌ فاضلة كانت تلكم في مُجملها مدرسة للشموخ .. فأؤلئك الرجال الذينَ غادروا قريتنا وأهلها كانوا يحملون مشاعل القيمِ والفضائل والعزّة ، وبمغادرتهم لم يتبّقى شيء من ريحة قِيَمهم إلا بعضاً من قيمٍ مُتهالكة ، ذهبتْ لتنتحر في عُرف معاني القوام الرغيد الذي لا يَحمل في أُسّه معانيَ صادقة بذات القيَمْ العالية ..غير كلام كثُر رُوّاده وتعالتْ أصوات مَنْظُورةً بلا وازع من قِيَمٍ فاضلة غير الدَسّ في الجيوب . وشبْع البطون ، وبهكذا قِيَم بَقِينا بلا أهليّة في التصرّف في ما نَمْلك إطلاقاً.. فتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الفردية ، أمرٌ مُتّبع وقانوني في مشروعٍ الوطنية السياحي ، وكثيراً ما تداخلتْ مصالحه في جيب المُخلصون كونه مشروعاً كبيراً يحمل ، كومةً من عُري صارخ ، باتتْ كوماته في درجات تأخذ في التصاعد والأخرى ذي التقليدية تأخذ في الانحسار ، وحينها وقعْنا في مظنة الاسترشاد بغيرنا تربّصاً منهم وعداءً دفيناً يُخفونه في صدورهم ، بُغضاً أقبح من وجوههم التي تشكّلت كموجات الصقيع والبَرد الذي ابتلوا به ، من بعْد أنْ نصبوا شِرك العداء البغيض ، منذ بعيدٍ على أهل هذه القرية التي كانوا يَتناهَوْن بينهم عن كل أمر مُريب .. فلا تهتم أنظمتهم بجذورنا ولا تلتفتْ أعينهم إلاّ إلى مصالحهم ، ولا يُعيرون قضايانا اهتماماً ولا يجدون لنا استحقاقنا .. رِجَالُنا ، يا بُني، هم من عاش في قريتنا قديماً ونحن من نعيش عليها حديثاً ، ومصيرنا آخذٌ إلى الزوال إن لم نهتم بمصيرنا أو يلتفت رجل مِنّا إلى أحوالنا .. وأما أؤلئك المأجورون بالحق السياحي ، هُم أصحاب عَرْبدة استخفّوا بأحوالنا فصاروا عبدة للمال .. وما أباكَ إلا فقير ، بائس لا حول له ولا قوة ولا ظَهْرٍ يحتمي إليه ، فمن لا يُسْنده ظَهْر ، يسقط وهو يتراجع إلى الوراء .. وقِسْ هذا في كل شيء ..! سكتت أمي ثم أردفت بعد تنهيدة عميقة :
    - يجب عليك ـ يا بُني ـ أن تلتزم بالحس الوطني حتى لو كنت مقهوراً أو مظلوماً أو مكلوماً ، فها أنت لا أباً لك اليومَ وغداً لا أم لك أيضاً ..! كان أبوك مُتمسكاً بالمكان ، وقد رفض أكثر من مرّة ، فكلما أُخْرج منها عاد إليها في الليلة التالية .. حتى جاء حُكماء القرية المأجورين ، لإقناع أبيك .. وبعدها بقيَ في صَمْته حتى نهايته المشئومة هذه التي تراها ، وحين نسألهم عن التعويض النقدي أو البديل ، كانت الإجابة حاضرة :
    - يَلْزمكم أن تَخْلو العقار أولاً " الدار " ثم يأتيكم " المالْ " تالياً ، لكني حين اجلس مع أبيك ، وأفهمه ، ان يُوكّل الأمر لله وحده ، يقوم من مكانه ، وتنعقد جبينه ويَصْفرّ وجهه ويتلوّن بلون الغضبْ القاهر ، يتصاعد الدم إلى قمّة رأسه بأثر الضغط النفسي ، فلا يجرؤ بكلمة واحدة نظراً للحالة التي يعيشها من يومها ، فقط يُراوحْ مكانه بين الحقْل وزريبة الغنمْ .! ويحتضن ( الْجِدِي ) ذكر صِغار المعْز ، يُؤكد لي مرات كثيرة أنه لكَ وحدك لا يُشاركك احد فيه ، ويمسح بيده على ( الحَمَل ) أنثى صغار الضأنِ والتي أهداها من قبْل لأختك الصغيرة في يوم عيد .. يُمسك بالأوتاد ، ويُوثّق رباطها .. كأنه يُوطّد العلاقة الأزلية بها ، يتوسّل إليها كيْ لا تُبقيه مُشرّداً أو تتخلّى عنه ..!
    للقصة بقية
    الجزء الرابع بالاضافة إلى الاجزاء 1/2/3 فاستمتعوا بالقراءة .. وانا منتظركم .. إذا وجدتم شيئاً احتاجه إلى مساعدتكم .. فإنه ليس عيباً ولا ينتقص من ثقافتكم او معرفتكم .. فتفضلوا مع الشكر ..


    _______

    دفعت بعربتي، وأخذتُ أجرّها، وأجرجرها، كأني أُجرجر وراءها خيبة عُمر امتدّت إليه أُمنيات ضحلة ، أُمنيات لا تَتحسّن بل تزداد سُوءً بعد سُوء.. أتردد على سُوق المدينة ، أحمل أكياس وأشياء أخرى ، أرميها في القمامة .. أحملها من دكاكين ومحلات الخضار مُقابل ثمن بخس ، مائة بيسة ، عن كل حِمْلٍ ثقيل ، يكسر ظهري ويُقوّس عموده الفقري .. كانت القمامة أو حاوية المزابل القذرة ، تبعد عن السوق ، بمقدار 50 متر أو يزيد .. في كل صباح باكرٍ، أنظر إلى الحاوية الكبيرة، حاوية جمع القاذورات والأوساخ والقمامة العفنة، أنها مصدر رزقي الوحيد، وأنا أسعى جاهداً لأكون صديقاً قذراً مِثْلها، بعد أن صكّت كُل الأعمال في وجهي .. وحين أتساءل ، لماذا .؟ لا إجابة شافية، غير هذه.. رُبما قدركَ المنحوس أودَى بكَ أن تكون هذه الأمكنة التي لجأتَ إليها ، كنايةً تُذكّرك بأن الحياة لحظات مدّ وجزْر وصُعود ونُزول ، لا تتوقف عند حدّ مُعيّن ، ورُبما انكَ أول من استقبلتَ الحياة بوجهك ورُبّما تذكرك بأول رضْعةٍ من صدْر أمكَ ،تُذكّرك بأول جُرعةٍ من ثدْيها فانفطرتَ عليها ، لا اعرف مُجمل هذه الكنايات ، لكنّي أكاد أُجزم لا يقينَ فيه ، بأنّ أمّك قد ولّتْ بوجهكَ ناحية القمامة لحظة الولادة العَسيرة ، أو تكون قد نستْ أو تناستْ لحظتها بأن تُغيّر وجهتكَ شطراً آخر غير شطر القمامة..! رُبما ذاك سبب رئيس جعلك تُعظّم المزابل وتتعلّق بحاويات القمامة .. ترددتُ كثيراً كيف أردّ على محاور خفيّ ، لا أعرف كنهه .. ثم قلت بعد إلحاح داخلي : أمي ، لا اعتقد ذلك .. أعقبتُها بسكتة ، ثمّ أردفتُ ، إنني مُتيقنٌ أن أمي تُيمّم وجهها شطر القُبلة وتُصلي بصوت خافت وتفيض عينها بالدموع، كنت أرى ذلك وأنا في حُضنها، ارضع من صدْرها وأمتصّ حَلمتها بقوة مجنونة.. قد يكون الأمر مُثار علاقة خاصة غير تلك ، إذ كان بيتنا قُبالة مزبلة المدينة .. فرد الصوت قبل أن أُكَمّل .. رُبما أنت مُحقاً في هذه ..! وضعتُ يدي على وجهي احكّه بسبابتي كمن ينبش في شيء ..! لا زلتُ أتذكّر ذاكَ اليومَ ، يومَ أنْ رفض المَيْسورين وكِبَار رجال المدينة الاقتراب من هذا المكان ، ظنّا منهم ويقيناً من أعوانهم انه لا يصلح إلا لأمثالنا مكاناً نختبئ فيه ويضمّنا في أُسرةٍ محسوبة في تعداد وطنيتنا الكبيرة وهذه الأمكنة الجديدة هيَ أقرب إلى واقعنا المُعاش ، فالنّجَابةَ في فلسفة كِبَار الرّجال هيَ فضلٌ أُوتوا بها دون سِوَاهم .. قال الصوت وكأنه يوقضني من غفوة تفكيرٍ مُزرٍ : كُنْ انجدَ الناس ركّابٌ لِصَعابها ، بفكرٍ يرتقي إلى أَنْجدها ، سَامٍ لمعاليها ، إني أعلم يقيناً انكَ من مناجيبَ الرجال ذي نباهةٍ ونجابةٍ ، فاضلٌ على أترابكَ ، ونباتُك حسناً ، لكن اعلم حقاً أن الشّعر لا يأتي إلا من جودة شاعرية خلاّقة ..!
    سمعتُ دربكة وطرق خُطواتٍ ، انظر في النّخلة التي توسطتْ طريقٌ مُؤدياً إلى قريتنا الصغيرة وهي تتمايل كأنها تلهب على وجهي ، تُخفّف حرارة الغضب المُتصاعدة إلى قمّة راسي .. أَمْعن النظر جيداً ، أُشخّصها ، أتفحّص النّحْلة وهي ترقص على شجرةٍ قُدّام بيتنا ، تتقافز على بتلات زهرتها.. كأنّها تُمنّيني بأكلةٍ شهيّة ، وتُؤكد بِرَقْصها وتقافزها على بِتْلة زهرتها بأنْ لا أعجل ، وكأني أحادثها .. أرغمَ كُل هذه العقبات الكَأْداء تُريديني أنْ لا أَعْجل ، فإنْ لم أعجل اليومَ فمتى أتعجّل وتأخذني السرعة إلى حقّي .؟ من سوف يستعجلني ويستحثّني إلى عُجالة تُرضيني .؟ متى سَيُرفرف جناحيّ فوق عَقباتها .؟! بكيتُ حين خنقتني الدّْمعة وخرجت كَأْدَاءْ ، في ضيقٍ وغيض ، عَبّ صَدري بتنفس عميقٍ ، أخرجتُ زفرتها مرة واحدة . ثم صمتُّ ولم أُكمّل .. وكأنّ ذاك الصوت يؤكد لي ، إنْ كُنت تُريد عاجلةَ أمرك عجّلنا لك فيها كيف تشاء وتُريد .. كانت سرعة الصوت كطوقٌ يخترق مَسمعي ، تنتفض طبلة أذني وتتمزق غشاء باطنها ، حككتُ عُثنونَ شُعيراتٍ نبتتْ تحت ذقني ، تلك عادة حفظتها مُنذ صِغري ، قِيْلَ عنها ، أنها كإشارة مُوحية إلى تعثّر حظّي .. شيء في داخلي يستحثّني لأندفع بقولٍ غير مُكترثٍ لعواقبه ، سأُلقيه على عواهنه ولو بأُسلوبٍ مُبالغ فيه ..! أحسستُ بقلبي يتقلّص ، تمتمتُ بتسبيح حفظتُ بعض عباراته عن ظهْر قلب ، دعكتُ بأصابعي مِسْباحٌ فتحركتا فُرضتا أصبعي وأنا أَدْعك حَبّات المَسْبحة بين السبّابة والإبهام ، وتمتمت بصوتٍ لا تسمعه إلا نفسي .. إنّهُم تَناثَوْا بينهم وأشاعوا أخبارهم ، أنْ لا قِيمة لنا وما صَلْفَ مُطالباتنا إلاّ كنُثار بقبقةٍ لا وَزْنَ لها غير نثْوَ سَوالفَ نبثّها بلا قِيْمةَ ولا مَعْنى ، أشبهَ بشجرة لا لِحَاء على قِشْرتها ..! كانَ هذا ذِكْرىَ من ماضٍ قاسٍ ، توقفت بُرهة .. ذهب الصوت ثمّ اختفى كُلّياً وبَقِيت لوحدي .. أتفكّر في كُل شيء ، يمر شريط ذكرياته أمام عيني ، بوضوح لا يقبل إنكاره .. عندها بدت قناعتي بالاستسلام إلى إيمانٍ يدفعني إلى تغيير سُلوكٍ وطنيٍ لا يحمل عدائية .. بدت خطوات الانتقال الجديد تتعثّر ، ثُمّ تتلاشى ، تُمزقني جِرَاحات الغصصَ المكلوم ، وبدا غُموض يسكنني . أتساءل ، إلى هذا الحَد تقفَ مصاعب الحياة نداً ، تُظهر كراهيتها على عائلتي .. بقيتُ واجماً أستعجمَ ما خَفيَ واسْتَبْهم عليّ .. مكلوماً بجراحات تُمزّق آثار وطنيّة سنين الاعتزاز المكاني والاعتداد بالنفس .. تلكم السنون رغْم حَمْلها شقاوة أيام مُرّة ، ذَكَرها لي أبي مرات كثيرةٍ وأنا ما زُلت صغيراً ، غضاً ، نظراً ، أمسك بعَجْوة التّمر ، أعصرها في راحة يدي ، ثُمّ ألْقيها في فمي ، مخافة أن يراها أبي ، فينتهرني ، لان أبي كان يُؤدّبني حتى في طريقة جلسة الأكل وآدابها ، تلك هيَ بعضاً من مناقبَ قِيم التأدّب يوم ذاك ، إذْ كانت تُعتبر من قوامة الصّبي ، ومُفردة رُجولية مُرتّبة على طريقة تربية أُسرية تُحافظ على مكانتها في بيئتها المكانية ، لا شيء أكثر مِمّا يُعرف في اعتداد التربية إلا أدب الصبيّ ، فينشأ على اعتدال واستقامة كما يتساوى الليل والنهار .. فإنْ وجد سواد ليالٍ دهمتْ أحدهم قامَ واستنفر ولا يدع حِمْله إلا وقد انزاح ما كان من ظُلْمةٍ على غيره ، وإن وجد نهاراً يسطع في بيئة ما ، حَمَد وشكر وهنّأ غيره عليها ، إلا أن الجراحات بدتْ في تزايدٍ كُلّما تشاكَل الناس في تعدٍّ ملحوظ على مُقدّراتهم ، أخفاها أعداؤهم المُتربّصين بغيض وحقد بغيضٍ منذ زمنٍ بعيد يتلونه وتلهج ألسنتهم بحروفها ، لكنهم يؤكدون بفذلكة إنشاءات التعابير الورقيّة ، قلّ فِعْلها وكثُر دسّها قريباً وبعيداً ، وصار الرجال هُم أعداء الرجال بأنفسهم ، فتداخلتْ عداوة بعضهم في حِقْد غيرهم ، فهشّمتهم ومزّقتهم تمزيقاً .. ومنْ يومئذٍ وأبي يُحمّلني أثقالها إلى أيامئذ وأنا أحمل أثقال وِزْر الهَمّ والغصص حتّى قضّتْ مَضْجعي ، أثقلتني سِنينها وأيامها ، ساعاتها ودقائقها ، بكل ما تحمله من وزْر استثنائي لهذه العائلة المَكلومة بغصص الذلّ والمَهانة .. المقرونة بطرّفات بيئتها المكانية المُقرفة ، وتُرّهات شراهة حقارة الزمن البائس ، وحدنا من استثنى قاعدة التوافق مع خط الزمن الحسنَ ، ذاك المتاع الزائف الذي يعيشه الآخرين ويتلذذون بمذاقه ..! وقفتُ وقفة مُتشائمٍ يائسٍ وقد صُعقت بذكريات مَشئومة تطوف كُلّ حينٍ علىَ مُخيلتي ، وَقْعُها كالصاعقة على نفسي الضعيفة .. ضللتُ أبحث في فَهْمها ، عن وميضٍ أمل ، عن مَخرجٍ يَلوح لي ولو من بعيد ، ولا يلوح .. تبتعد الأُمنيات الحالمة بلياليها العِجَاف ، وتمتص نهاراتها ببياض لا ينقش على جُدرانها بقاءً .. غير هذا البقاء الذي أنا عليه من الأماني العِجاف ، أماني من بدايتها حقيرة ، ذات شُؤمٌ ، فظّةٌ ، غليظة ، أسقمتني ، وأثقلتني ، حتى صار حالي استثنائي بعربانةٍ لا أجدُ غيرها .. تهزّني الأماني السّقيمة ، وترتجف ذكرياتي ، تتساقط دقائق أيامَ انتظاري .. وأحلامي تتهشّم ، تتلاشى أمانيها ، تبدّدت مآربها الَمرْجوّة ، حينَ دوتْ صَواعقها المَرْعوبة بذكريات منحوسة ، أقرفتني طُوال سُنون الانتظار المَشحون بزخمٍ لم تَعْتد به .. رغم ان شَعري الأبيض ، ينتشر في أماكن شتّى مُظلمة ، خفيتْ عن كثير واندسّتْ عن كل عين إلا عن عيني .. أخفيته كصمتي ، فاستحضرت التأزّم التالي .. ما بال ذلك الشّيب يشتعل برأسي كأنه عازم على قهري ، أيريد قَتْلني أم بيّت نيّته ليقتل كُل ذرّة طَيّبةٍ من جمالي الآدمي ، ذلكم الجمال الذي أكرمني به ربي ، ليزعزعَ كُل علاقة مُتصلة بي ، فلا أجد تناغماً يكفل لي عطاءً غير مجذوذ ، إلا حَنْق الشيب الذي يُطوقني ، أتراهُ يَحسبني متاعاً في السوق ، أم انتهتْ صلاحية علاقة سَواده بي ..؟! أماَ آنَ الأوان لتبيضه أم أنّ اشتعال الشّيْب في رأسي من ثبات الوتدِ على شعُيراتي غير الشائبة وهل هذا هو عزْمٍ أكيدٍ من بقايا نغصٍ قُدّرتْ لعائلتي .؟ فكيف ألحقُ بها وهيَ لا تجدَ ما يُمنّيها .؟ وهل الشّيْب المُشتعل به رأسي يُبْعدها عن عزيمتها الجادّة ، فتحنثْ عن قسمَها الذي أمدّته بيمينها لِتُعاهدني عليه حتى الساعة الأكيدة .. بعيداً عن عزاء الشيب الذي تغلغلَ في شُعيرات إبْطي ببياضٍ يُلاحقني ، قبل أن يَقطع عَسَبُه ويشقّ عليّ النّسْل فلا تنال شيء من مُبتغاها ، كما تُمنيها أنوثتها وحيث تمنّيات كُل اُنثى .. تلكم الأماني غير منزوعة الألفة ببياض شعرٍ يأكلني بسُحنته المُكتظة بسوادٍ حيّ قبل بِضْع سِنين .. وتساءلتُ : أهيَ بادية على فِعلٍ ما .. إذا ولّتْ صلاحيتي ـ ولو كان اعتقاداً ـ ؟ ألا يحق لها أن تهنأ بما تُمنّيه لنفسها من حياةٍ أُمَتّعها بها وإن بانَ لها ظاهرٍ بياضٍ في رأسي .. ضحكتُ وأنا أحدث نفسي .. بياض الشّيْب غِطاء طبيعي خيرٌ من غطاءٍ قائمٍ بسوادٍ قابلٍ للزوال ، وكذا هو الحال إذا ما اقْتُلعت نَبْتة بياض الشيْب من جذورها ، ألا ترينه ، فيه شيء من فلتاتٍ مُعيبة..؟ أغمضتُ عيني ، سقطتْ دمعة .. وَتَلَوْت حُروف كتبتها بيدي وخَطّها قلمي .. أيحقّ لتلك الأنثى أن تُمْلي شُروطها إلى مودّة تسكنها ، كأنْ يخلو هذا الشيب الذي اكتظّ بشراسته على كل أنحاء جسمي الظاهرة والخفيّة ، فأفقدتني شرعية مُبتغاها .. أيحقّ لها أن تدّعي بفضاءٍ لا أمَنّيها بها .؟ ألا تخلو هذه الأمنيات من التّعقل ..؟! لوحت راسي أسفاً ، ما أَعْجَلكِ من أنثى ..؟ نظرتُ إلى شُعيرات صدري ، شنّكتُ حاجبي ، فخارتْ كلماتي وانكفأتُ على حالي وهتفتُ بصوتٍ واهٍ .. هل الشّعيرات الشائبة سبباً رئيساً لانتهاء صلاحية فُحولتي .؟ ما ذنبي إن أكلني الشّيب في غير موعده الذهبي ..؟! وهل تُعاقبني مودّتها قبل أن تسكن إليها نفسي ..؟ أليس كُل نفس رطبةٍ راغبة إلى شيء يَسْكنها.. !؟
    كان ذلك الهذيان عبارة عن صخْب عالٍ جداً ، زادته قسوة الأيام مرارةً حتى صار مَثار حديثٍ يختلج إلى ذاتي ، تنشره عبر مونولوج بَرْمَجتها اللوغورتمية يوم انهجستُ عن أمرها وارتددتُ عن فَهْمها ، نظراً لما لأيامئذٍ من شدائد ومِحَنٍ ، وودتُ لو لمْ يَخْتمر عجينها إلى الأبد ، فَصَخْبها عارمٍ دفينٍ في نفسي ، وكثيراً ما تختلط أصواتها بلا هَجْعةٍ أُمَنّي بها نفسي وحين ألوذ إلى هَجْعِها تخدعني فأستسلم إلى نهار مليء بصخب عالٍ يدق ناقوس خطره في نفسي ، ورغم ذلك فأنا استمسك بِعُروة الأمل ليكون موثقَ ليلها أقرب وأقرب .. بهكذا أملٍ وهاجسٍ غير بعيد ، بدوتُ كمتشائم ومتفائل في بِضْع هفواتٍ قاتمة ولحظاتٍ سعيدة مدفوعة بأملٍ دافئٍ أو شُؤمٍ بائس .. كُل ذلك يحدث ، حين أَفْقُد هدوء رُجولتي في ليلي البغيض ، بهكذا مُعالجة فظّة ولذيذة ، أحاول اجمع بَعْضي إلى بَعْضه ..! وأعيد مُحاولتها ، فأتناغم مع مُختلفها ، ألمس في لمْحةٍ ملامح شَبقها - حيناً - أو اختلس نظرةٍ غِرّةٍ في حين آخر ، أنشدَ ضِلّ حياةٍ مَسْكونة بهاجس الوُد والسّكن المُطمئن ..!؟ حديث مكتوم في داخلي لم أُفْضي به إلى غيري .. ليبقىَ سُؤالي قائماً ، تُرى كيف انزرعَ بياض الشّيْب في رأسي وإبْطي وأنا ما زلتُ غِراً ، لم أتجاوز الثلاثين من حياتي التعيسة .؟ نكّستُ رأسي ، وإذا بصدري يشتعل بياضاً ، فاهتزّ جسدي خوفاً .. قلقتُ كثيراً وترددت بتصويب نظرتي مرة أخرى .. كي لا ازداد خوفاً أو سُوءاً فتتبدّل حياتي إلى أكثر تعاسة من ذي قبل .! وذهبتُ إلى حيث أيام أمي التي لم تألو جُهداً أو تعبٍ أو خِدْمة إلا وفَعَلتها لتبقى كرامتنا محفوظة ، ولكنّ العُمر تقدّم بها ، كأنه يَرقبها ، يتلصّص عليها ، كيْ تبقى التعاسة بوابة الشُّؤْمٍ التي نَكْرهُها .. أتذكّر بقوة ساعة قِيَامها بالبحث عن مأوى لنا يَحمينا من برد شتاء قارس ، فنعيش كباقي الوجوه الآدمية .. تمرّ السنين طويلة ومُتهالكة ، تتقلّبُ بأوجاعها ومَصائبها العصيّة ، استبدلتْ أُمي بيتنا ذات العِمارة الطينية المُتشرذمة ، كأسنان ذاك العجوزٍ الذي كان يجلس كل صباح ومساء قُدّام بيتنا ، فنتقاسم معه الطعام والشراب .. وحين كبرتُ وصِرْت شاباً يُعْتد به ، علمتُ انه أبي .. فقدَ ذاكرته أثر صَدمته بقيام جرّافة كبيرة ، هشّمت بيته الذي ضمِنَ أنه أماناً على حياتنا ، بحجة المصلحة الوطنيّة .. لكن أبي وكما تروي أمي : رفض عبدالله كل الحُجج رفضاً قاطعاً وأبىَ النزول إلى رأي الذين حاجّوه بإقامة مشروعهم ، مُؤكدين عزْمهم على تنازلهِ إجبارياً إن لم يكن اختيارياً ، فما يقومون به هو من اجل المصلحة الوطنية فقط .. ولكنّ أباك تمسّك برأيه واعتبرها حُجّةً باهتة ، وامتنع بقوة عن تنازله ولو بمقدار فرضة أصْبع ، مُتحدّياً الجرّافات التي تسحق كل شيء حتى لو حوّلته إلى فضاء خالٍ من أي نبتة على الرمال ..! كان إصراره قوياً هو والذين معه ، إذْ كانتْ وقفتهم تلك ، شكّلتْ مُنعطفاً خطيراً حين وجدوا عزم الرجال مُؤكّدين على التحدّي الكبير ، وكان ابوك يومذاك في مقدمة الرجال يهتف بأعلى صوت ، لا .. للمشروع .. فليسقط القائمون عليه ..!! وعلى أثر ذلك التحدّي أُصيب أباكَ بنوبةٍ ضغطٍ عالية وأزمةٍ نفسية عارمة ، اهتزّ لها جسده وارتعش ارتعاشةٍ بغيضةٍ كانتْ شديدة على جسده الضعيف .. فأخذ يتفوّه كما لو كان قد فَقَدَ عزمه وثباته ، فصاح قبل أنْ تُغيّبه فُجَاءة هذا التحدّي إلى حيث كانْ ..! " لنْ نسمح لأحدٍ أياً كانْ ، بِمُصادرة مَراعينا ومحوَ أمكنتنا وتفتيت بُنيتها ، فتكون كأنّها لمْ تكنْ من قبْل ، ولن نرضى بطَمْس مَوْروث أجدادنا وانتزاع حق آبائنا قهراً وإذلالاً ، وإقصاء أحفادنا بعيداً ، كيْ لا يَعْلموا شيئاً بعد أنْ عَلِمْنا كُلّ شيء.!! توقف بُرهة ثم واصل " لنْ نقبلَ بحُجج واهية ، فجّة كهذه ، إنّها حُججٍ أقربَ بهاتةً إلى عُش الغُراب ..! "قالتْ عمّتي خديجة التي تكبُر أبي سناً ، وكان تجلس بقرب أمي تحتسي القهوة وفي يدها شيء من تمرةٍ عالجتها بيدها حتى اصفرّت ، تفركها مرة ، وتدعكها مرة أخرى ، تُقلّبها بين أصابعها الثلاثة الإبهام والسبّابة والخُنصر ، وحينَ نهضتْ أمي من جلستها وكأنّها تفسح مجالاً أكبر لعمّتي خديجة لترسّخ في ذهني علاقة أبي برفضه المشروع على غير ما أشيع عنه ، وخاصة بعد نوبته تلك التي لم تُفلته إلى أن وُرِيَ جسده الثّرى وصار نَسْياً مَنْسياً ، انه كان يُحب الظهور من باب " خالفْ تُعرف " .
    أحنتْ عمّتي رأسها هامسة ، وقد شدّتني من كتفي ، إفْهم أمك جيداً ، فقد آثرت كُل شيء من أجلك ولم تَبخل ، بذلتْ كُلّ غالٍ ونفيس لتبقى .. كانتْ تدعو لك أن يَجعلك الله في نِعْمة وفَضلٍ وفي مَسرّة الحال وعفّة النّفس وفي عِلْمٍ ومَعرفةٍ مُتواصلة غير مُنقطعة ، يكفيكَ دُعاءها قبل ان تُقَدّم لك الحياة وتُهديك إياها ، استرخصتْ رُوحها وسُكونها ، كما لو كان ذلك تقعيداً من أيامها الباقية .. ولهذا السبب خُذ بنصيحتي ولا تَعْجل ، فإياك وتجعل عينيها تلتقي في عينيك ، فإن التقتا ، فاخفضْهما حالاً ، ولا تَهْجس أمامها ، كُن مُستمعاً ومُنْصتاً .. نظرتُ إلى عمتي خديجة التي لا تزال تحتفظ بجمالها الفِطْري رغم تقدّمها في السن ، وأنا اُشنّك حاجبيْ وزوايا شفتيّ ترصّ على بعضها .. وبصوت خافضٍ على غير عادة صَوتي الجهوري :
    - طيب كلميني عن أبي والمال والجرافات والبساتين الجميلة وأهل القرية ، وأسباب تحدّيهم ورفض أبي القاطع إلى الحالة التي انتابته يومئذٍ وما قيل عنه .. ؟! ابتسمتْ ، غمغمت بكلمات لا افهمها .. قطّبتْ وعبستْ ، زوتْ عينيها كأنها انقبضتْ ، سقطتْ دمعة فأخفتها .. أحسستُ بإشفاقٍ فُجائي ناحيتها ، لا اعرف سببه ، لكنها طَمْأنتني ، لا تقلق ، أمر أباكَ ذهب وأمرك آتٍ .. لا تسمع لقولهم ، فأمّك يوم ذاك وحين كانت على أشدّها كانتْ تُحب النساء مُجالستها ومُحادثتها ، لم يُنسب إليها شيء مِمّا سمعت ، وأنا أُوصيكَ ، لا تكن كـ الزّاغْ ، وجهه اسود مُغْبَرّ وبقيّة جسمه مُتلوّن ببياض .. تذكرت هُنا بياض الشّيب في صدري وإبطي وبقية جسدي .. سألتها ما الزّاغ يا عمتي ، ضحكتْ ، الزّاغ ـ يا أحمد ـ غُرابُ كثيرٌ ما يأتي على زراعتنا ويتلف شيء من ثمرتها ، وانفرجت ابتسامتها ، إنْ لم يكن يُخرّب أحسنها ..! بعضهم يُؤكد انه طائرٌ حاسد .. لكن أباك قال ، انه طائر مُهاجر ، لا يستوطن بُلداننا في اغلب الظنّ ، سكتتْ ثمّ أردفت ، ما يَهَمّني هُنا ، هو أن تكون قريباً من أمّك ، أُمّك كانتْ أولّ من واستْ أبيك بِنَهْنِهةَ دمعةٍ سقطتْ من مُقلتيها ، فأنشأتْ بدمعتها مكانةً في قلبها لأبيك . أُمّك أخفتْها عن عين أبيك حتى مات ولكنّي لم استطع أنْ أُخفيها عنك ، إنها الأمانة يا ـ أحمد ـ داعبتني بوضع راحة يدها وأدخلتها في بطن يدي ، ضغطتْ على أصابعي فأحدثت فرقعة ، حَوّلتُ ناظري صَوْبها وابتسمت بوُدٍّ عائلي .. ثم أكملتْ ، كان أباكَ مُذْ صِغرهِ دقيق المُلاحظة ، شديد الحَدس ، حادّ النظْرة .. وكانت أُمّك كتوأم روحيّ له ، فَهِما بعضهما ، كأنّما ولدتهما أماً واحدة .. إذْ كانَ هو بطبيعته العاطفية يميل إليها ويجنح بودّه لها ويُرغبها ، وهيَ بحبها تعشقه وتتغنّى به ، كطائر يُحلّق بجناحيه غير مَهيض، يُرفرف بسعادة ، لم يُكدرهما شيء منذ أن تزوجا ، ولم يَنجبا غيرك في الحياة .. أنت يا أحمد وحيدهما ، لو كُنت تعلم يوم ذاك لعرفتَ كيفَ أخذتْ تُسلّيه تعزّياً ..؟ كانت نظراتهما تُؤكد عزمها على المُضي قُدماً مهما عظمَ الامر وغلظ ، لنْ يصيرا اضداد بعض لا في فكرتهما ولا في توجّهاتهما ، يجتمعا على نبْضٍ واحدٍ، أتذكّر يوم قبض عبدالله بيد أمّك عزّة وقال وهو في أمر واقعته العصيبة ، ونبضات قلبه آخذة إلى الهبوط ، إن أردتّ إسعافي فاجعليني قُدّام تلك الجرّافات .. بكت عمّتي خديجة .. وأردفتْ ، كانت يومها مُفردة الجرّافات لا تَسْعفها غير اللحظات القاسية .؟ لحظات اضطرّتنا جميعاً إلى ما هو اشدّ قسوة وأَلجْأتنا إلى أن نقف وقفةَ الضّرير الاحوج ، ويا للأسف لحقَ بنا أذاها ومكروهها .. يوم أنْ ضرسَ الزّمن واشتدّ علينا الخطْبَ بقوّة ضَراسته وبأسَ شَراسته .؟! و كان شأن أمك وحالها ساعتئذٍ حرنةً مأخوذة بتدافع الجرّافات التي تُهشّم البيت والبُستان ذي الثمار النّظرة ، وحُجتهم المأفونة انه اُقيم في وقتٍ كانتْ أعين المصلحة الوطنية نائمة وها هي الآن قد استيقظتْ ورأت ما لم تره عين ولكنه خطرَ على قلب القائمون على المشروع .. ومن لحظتها تبدّلتْ أحوال أخي عبدالله ، ولم يستطع توقيف العمل القائم على تهشيم بيته وتمنى ما لم يتمنّاه أحدٌ في نفسه .. تمنى لو يأتيه الموت قبل ان يرى هذه القسوة والتسلّط الوقح ، إذا لا إنسانية يُخشى عليها من قوة سُلطوية تذلّ من ترتبط بهم مكانياً وتراهُم لا يستحقون حتى الاهتمام ، فالنملة عند سليمان الحكيم كان لها مكانة فأعطته عزماً وقوة ، وحُسن تدبير .. ولكنّ المسئولين يرون تهشيم بيت عبدالله ، لأنه ليس صَرحاً مُمَرّداً ولا بئر بترول ، ولا خزائن تحته ولا كنوز فوقه ، غير بُستانٍ يأكل منه ، وزريبة غنم يعتاش عليها وبيتٌ يضمّه هو وأهله ، فهلأيحقّ له الوقوف أمام قوة المصالح الوطنية .. سقطت دمعة عمتي خديجة ، وهي تسرد حديثها ، سقط بيت عبدالله أمام مرأى الأعين حُطاماً ، إذْ كان في نظر القائمون على المصلحة الوطنية ، أنه بيت أقيم بطريقة لم تكن مُستقيمة يومذاك غير قانونية رغم شرعيتها الدينية ، فالبيت قد مرت عليه أكثر من عقدين من الزمن ، ولكنها اليوم أضحت ممتلكات خارجة عن القانون ، لا وجه حق في قيامها من وجهة نظر المصلحة الوطنية ، ولم يكتفوا بإزالة البيت والبستان ومزرعة صغيرة اتخذها أبوك زريبة للأغنام ، فقد أصدرتْ الجهات المعنية أمراً مُلزماً لجميع ساكني هذه القرية الضارب أطنابها في أعماق الزمن الغابرة ، بتوقيف وسجن كل من يلحق الأذى أو يُعطّل عاملي المصلحة الوطنية حتى ولو كان بحجة شرعية ، فلا شيء فوق القانون .!! والحقوق مكفولة بعد التنفيذ .. يكفلها القانون فقط لا غير ..!! لكن أخي عارض هذا الرأي ومعه رجالٌ ، قاموا معه ، وظنوا أن إخراجهم من ديارهم مذلّة لهم ، وفي الأثر " من يمت دون ماله أو عِرْضه فهو شهيد .." وأبوك يا أحمد شهيداً في الجنة ، لأنه حضيَ بالاثنين معاً ومات دونهما ..!! فضلاً عن أنّ الجراّفات دأبتْ على ترويع وإزعاج مواطني هذه الوطنية المُهشمة بقوةٍ لا غالبَ لها غير القوة الشرعية التي يتمسّك بها الرجال ويعتدّون بها .. وقفتْ عمتي ، وشرعتْ كالخطيب بين المصلين .. لو كان ربّي يأخذهم على أخطائهم لما بقيَ أحد منهم في الحال ولَفِنيَ الناس ولم يبقى احد على البسيطة ولكن يُؤخّر ذلك عنده في كتاب ، لتُجزى كُلّ نفسٍ بما عملت ويُقضى بين المُتخاصمين ، يوم ذاك يوماً أغرّ لا قوة ولا سُلطة أقوى من الحق المُبين ، يوم ينظرون فيما قالوا وما عملوا وما كانوا يفعلون ، اليومَ فقط تقول النّفس الأمارة بالسُّوء ، ربي ارجعون ، أعمل صالحاً ، وأغيّر نظرتي ، لعلّي أكون راشدة لنفسي وصالحة لغيري ، ولكن القوة الصادحة في هذا اليوم ، لا ظُلْم اليوم ، فأين هُم المُعْتبرون حقاً .. !! بكتْ عمتي ، وغمغمت ..ثم أردفتْ : أنهم يظنون بفعْلهم أنّهم يُجانبون الصّواب ويُحسنون صُنْعاً ، لكن هيْت لهم ، فإزعاج المَغْلوب على أمره وتهشيم جُدران بيته وسحق بُستانه بالجرّافات ليستْ من الحَصافة الإنسانية وليستْ من القِيم الوطنية والمُثَلِ المُتوارثة .. كان أباكَ لا يَرتدّ عن قول الحق ، تُنازعه نفسه إنْ لم يَقُلْها علناً يقول الحقيقة ولو على نفسه ، هكذا عهدناهُ مذ صِغره ، لا يخشى لَوْمة لائم ، تفزّ الكلمات من فمه عامرة بالإيمان ، لكنه للأسف لم يُتمّهُنّ .. لم يستطع ولم يَقْدر ، كأنما أمرٌ كمّمَ فاهُ ، لثغ لسانه وتثاقل .. ارتجفتْ شفتاه ، واهتزت أطرافها . قلتُ لعمتي وأنا إلى جانبها وقد ارتصّ ثوبها التقليدي بجسدها ، ثم تابعتْ تُكْمل حديثها .. كان عبدالله .. فقاطعتها ، نعم يا عمّتي أتذكر ذاك الموقف جيداً .. دمدمتْ عمتي برأسها إلى صَدْرها واغرورقتْ عينيها بالدمع ، ماءً ينسكب من حُجر مُقلتيها ، بلّل ثوبها البلدي الأنيق بزركشته الجميلة ، التي قلّ أنْ تجد مثله زيّاً نسوياً فضفاضاً ، حافظتْ عليه المرأة في حارتنا الكبيرة .. أغمضتُ عيني فكأنّي أراهُ حاضراً غير غائب .. تابعتُ بدقة تفاصيل انقطاعه عن البُكاء ، ثمّ غَمْغم كأنما شيء يَنْفجر في داخله ، ينشطر .. يتقطّع فلم تعُدْ أحبال صَوته فاعلة ولم تكنْ دَمْعته حاضرة ، توقف فجأة .. شخصتْ عينيه وقد صَوّبها تجاه الحقْل والجدار ثم وَمَضتْ عينه إلى أمي .. ساعتئذٍ قد اصفرّ وجهه وتجمّد جسده .. صاحتْ أمي بغضبْ .. وشفتاها تتشنّجان وغدا وجهها احمر .. أحسّت أُمّي بإشفاقٍ فُجائي ، إشفاقٌ غير مُبين ، لم تُظهره لغيره من قبْل هذه الحالة المُريبة التي أزعجتها .. بَهَتتْ وحَمْلقتْ ، ثم وضعتْ يدها فوق عينيه وأرْخَتْهُما إلى تحت ، فَأَغْمَضْتهما بيدها ، كأنها تمسح عليها مَسْحة أخيرة ، مَسْحةً بقتْ ذِكْراها تحمل قيَم الوُدّ ودفء السّكن وحُسن العِشْرة ، مُتنسّمةً بالفضْل والإحسان والمعروف الذي لا يُنسى أبداً .. حملتْ شيئاً ثقيلاً وألْقتهُ على جسده ، فكان غطاءً سميكًا ، سحبته من علياء رأسه حتى أخمص قدميه وكتمتْ غيضاً . تنفست وسحبت هواءً عميقاً ، كأنما آلة كهربائية تشفط شيء بقوتها .! وعلى أثر هذه الكلمات ، انسحبتْ عمتي ، وأخذت تسير بخطوات ثقيلة ، إلى خارج دارنا ، كمن يُجرّ إلى حتْف اُنْفه ..! أرقب ثوبها وقد تبلّل لحافها واختلطت دُموعها بِمُخاطها .!
    بعد سبع ليالٍ وعشيّة جلستْ أمي بقربي ، وأخذتْ تحكي مناقبَ أبي ، تُحرّضني على البَقاء على نهجه القويم والسّيْر المُسْتمد من أخلاقه وقِيَمه ، وأنْ لا استسلمْ لأحدٍ كانَ من كانْ أو من يكونْ هُو ..؟ وإن مُتّ دونها .. فالحياة مكتوبة وكذا الموت لا احد يزيد فيه .. كل شيء عند الخالق مُقدّر ومكتوب .. وبهدهدة أُم ، إعلمْ يا ـ بُنيّ ـ لا تُنْزع الرُّوح إلا بِعِلْمه ، يَعْلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور .. حتى الورقة التي تسقط من الشجر يَعْلمها ، كل شيء مَعْلوم ، لا يَخفى عليه أمر وإنْ بلغْ .. ! فإياك ثُمّ إياك ، أن تكونَ أقل قِيَمة أو أرخص ثمناً من قيمته ومَعانيه الثمينة ومَبْلغ فهم أخلاقه .. فأباك عاشَ برجولته حيّاً وماتَ عليها .. بَكيتُ بحرقة ، ارتميتُ في أحضانها .. شعرتُ بقشعريرة ، ثم وَخْزةٍ تَسري في جسدي ، حقدتُّ على القائمين على هذه الوطنية ، وعلى أؤلئك الذين يسترخصون أموال الناس ، هواناً عليهم ، ذُلاً وَقَرْفاً .. يترفّعون على غيرهم بقوة مَكانتهم ويَنْسُجون خُيوطاً باهتة ـ كخيوط العنكبوت أو هي أشدّ ضَعْفاً ـ ومن وقفَ في وجههم أذلّوه وأهانوه وحقّروه .. كما فعلوا بأبي .. أقسمتُ في داخلي ، ثم جهرتُ به لتعلمَ أمي يقيناً :
    - أُقْسم يا أمي ، أني سأنتقم لروح أبي .. سأنتقم من تلك الأنفس التي تستحقرني وتَسْتضعف غيري من الناس . ولكن ألا تُخبريني القصة بكل تفاصيلها الدقيقة ، كيْ تبقى مُختزلة في ذاكرتي .! قبّلتي أمي بين جبيني ، وراحت تسرد حكاية أبي :
    - عاش أبوك طوال حياته عزيزاً كريماً ، حتى جاء اليومَ الذي كان هو ومن معهُ على ذُلٍ ومهانةٍ وهَوان وطنيّة كحال غيره من البُؤساء والمُستضعفين والمُسْتقصدين كما هو الحال في حكاية أبيك هذه .. فعزّتْ عليه أن يُفارقها أو يَهْرب منها ، لتبقى هذه الحكاية المَريرة شاهدةً على رُجولته وعزّة نفسه ، يومذاكَ كُنت صغيراً ، ولمْ تَعيَ كثيراً منها .. سكتتْ وهي تَغْرز عينيها في عيني .. ظلّ بيتنا ومزرعتنا بحقلها الصغير الذي نقتات من أزهاره وثمار مزروعاته خيراً كثيراً .. كما استفاد منه مُجتمعَ هذه القرية المُتسامح أهلها ، حتى جيراننا كان لهم نصيبٌ وافر منه ، حين يكون لديهم خصْب من الزّرع أو مَحْلٌ من الماء ، إذْ كان أبوك طيباً قانعاً ، لا يدّخر شيئاً كثيراً لنفسه إذا ما عَلمَ أن هناك من يحتاجه أو من هُو أحوج منه .. إلى أن جاء ذاك اليوم المشئوم ، فلمْ تطول ليالي ونهار المُهلة غير أيامٍ معدودة .. حتى ابتدأتْ طاحونة العذابِ بكلّ ما تحمله من أسىً وأذىً نفسي ، من خلال ثقافة الحِرْمان ومصالح اللّقْمة الوطنية التي سَرعان ما أودتْ بِقَهر ثقافة الأمان والعيش الاجتماعي بما تحمله من قيمٍ ومَعارف كُنّا عليها مُلتزمون بأخلاقياتها ، ولكنّ اللّقْمة الوطنية تطلعتْ إلى أبعد من ذلك ، فأخذتْ تقتلع المزروعات ، فطار صوابك ومن معه من الرجال وتوثّب كفأر مذعور ، ماذا يفعل .؟ وكيف يتصرف .؟ أمام طيّات المزروعات التي أخذتها الجرّافات وطيّتها طياً كما تُطْوى قراطيساً لا مَنفعة منها ولا صلاح .. ويوم ذاك كانت صرخة أبيك مَدْويّة .. أمَا آنَ لهذا الليل الغاشمْ أن يَنْجلي ..!! ثُمّ أخذ يجرّ قدميه ووقف بصلابة أمام حلْق الجراّفة غير عابئ ولا خائف ، وقدّم رُوحه قُرباناً لذكرى لن تموت .. ذكرى الذلّ والمهانة والاحتقار .. ذكرى تأريخ اللّقمة الوطنية البخْسة .!؟ لكنّ قدمَ بعض الرجال خارتْه ، فربما شعرتْ بأن لا فائدة لوقفتها ، لكن عبدالله كان ذا عزْمٍ وجَلَدٍ وقُوة وشَكيمة لا تَلِيْن ، فقد أبرّ بقَسَمه .. لمْ يتزحزحَ ولمْ يَقُم من مكانه .. فاستكان بقوة إيمانه ، بأنّ التأريخ لن يخذله .. ويومها قد أوجستُ في نفسي خِيْفةً وأنا انظرُ إليه من باب غرفتي القائمة على أعمدة قوية وجُدرانها مَبْنية بالطوب والجص البلدي غير الموروربَ ، وغير المُحكم إغلاقه كُلّياً .. رفعتُ أنفي لاشتمّ النسيم لئلاّ اختنق ، ظهرتْ صورة جسد عبدالله من فتحة الباب تلك ، ظهرتْ لي صُورته كأنّما جلس القرفصاء بعزّة وشموخ وبيده مَسْبحته يَدْعَكُها بأصابعه ورأسه يتحرّك بالنفْي والرفض ، وأكتافه تُوحي أنها تسبّح بمتمتمات ربّانيه .. وتساءلتُ ، أيكونوا قد لَبَدُو بكمينٍ لعبدالله .؟أحسستُ بقلبي يدق يكاد ينقبض .. وشعرتُ بأنّ نبضات قلب زوجي عبدالله تتقلص عضلاتها ، وتسير إلى دقات بطيئة .. تمنّيتُ أنْ لا يجلس على صخرة تدفّق الماء ، فلتوّها رطبة من اثر السّيْل الذي استمرّ لأيام عِدّة وتبدو زلقةً ، دَبقةً من آثار طحلب الماء .. كان النهار لا يزال باقياً ولم تزل الأشكال واضحة ، مرئية بوضوح أمام الأعين النقيّة بطلعتها البهيّة التي ترى الأشياء جميلة كما ترى الآخرون عليها حق لهم أن يتمتّعوا بجمالها ، ناهيك عن حُكم سُكنى الوُدّ بينهم وارتباطهم بوثيقة قُربى صِلة المكان .. فما أكبره من ارتباط وثيق وما أعظمها من صلةٌ تقربنا إلى ذات الشيء زُلفىً ولو كان صغيراً ، فهو في صُدورنا وقلوبنا كبيراً .. وفي الأثر نقرأ أن رسولنا الكريم نظر إلى مكّة مرة ، وقال قولة تأريخية ، لولاء أنّ اهلكِ أخرجوني منكِ لما خرجت ..!! ، على تلوَ كلماتي تلك ، كانت الشمس تسقط بقرصها إلى أعماق الأرض وفق رُؤيتنا لدوران الأرض ، ونورها الوضاء ، آخذٌ في التلاشي ، وتزداد ظُلْمة المكان سواداً كُلّما بسط الظلام نُفوذه وشدّته على أرجاء المكان .. في هذه اللحظة أخذتُ أُناغي دفئه كطفلي الذي ألاعبه ، الذي سقط بغير حول مني ولا قوة ، عند تلك الصخرة حين اندلقَ مني طفلي قاسم ابن الأربعة شهور ، وانزلق عبر تدحرجه من فوق الصخرة التي جلس عليها الآن أباك ضداً وندّاً ضد أؤلئك الأوغاد الذين تكالبت علينا مصالحهم وصارت وطنيتنا منفعة تتقاذفها المصالح أينما ولّت أو حلّت .. وإلا ماذا تقول في إخراجنا منها بحجة مشروع سياحي .. فنادق وملاعبَ للجولف .. ودُورٌ للسينما ونوادٍ هُم عليها قائمون .. وما أدرانا بعد ذلك هُم فاعلون .؟! نظر أبوك في حينها ، نظرةً قوية وكبيرة ، أحسستُ بوخزها كحرق نار ، تُوشمني بها يدٍ هيَ الأصل عليلة وبِعِلّتها تود أن أكون مَريضةً ، سَقيمة مِثْلها ..!! ساعتها كانت ابتسامة عبدالله ، إبتسامة يسخر بها مني .. إبتسامة يُشمّتُ بها عَقْمي .. من يومذاك المشؤوم .. نظرته تُوحي إلى فراغ الدار .. وهي الوخزة التي تُؤلمني .. فقاسمٌ ، قسمَ بيننا مودّتنا ، وقسَم دارنا ، وشتت حقْلنا ، ليجعله ذاهبٌ إلى حيث هو ذاهب .. فقاسم ذهب بروحه إلى سماء ربّه العالية ، وحقّنا المُجحف من أصحاب المشاريع الوطنية سيبقى للتأريخ مآباً وسيسلك طريق الاُنْفة والشموخ ، وسيكتب حروفه بماء الذهب الذي يبقى ولا يزول .؟! سقطة دمعتي، اغرورقتْ مقلتايَ ، وفاضتْ دمعاً ، وسالتْ كما تسيل الأنهار .. وتخايلتُ وأنا بتخايلي ذاك ، تمنيت وتمنيتُ ، كثيراً ، تمنيتُ ، وأنا أراني وسط سيْل عرمرم ، وكوكبة من نجوم آدمية ، أطفال ، وصبايا .. أُداعبهم وأُلاطفهم ، أحافظ عليهم كما ينبغي ، لا أفعل فِعْلتي الأولى ، كما انزلق قاسم ، فأسرع به الموت ولم يأتي بعده أحداً ، لأبقىَ على عُقمٍ ، قسمَ مودتنا ولو كان ذلك خُفية في الصدور .. بكيتُ من الفرحة وأنا أرى هذا السّيْل يتدفق في نهرٍ غير مقسوم بيني وبين زوجي عبدالله ، كلانا يُوزّع ابتساماته لجميع اؤلئك الأطفال .. بكيت من الفرحة الكبيرة التي اعترتني فجأة .. تأثرتُ من حالة العُقم التي انختمتْ بمجيء أختيك التوأم .. وقفت بُرهة ، أتحسس بطني .. انظر في مرآة أمامي ، هززتُ راسي ، أنا الآن كبرتُ .. في الأربعين من سِنين عُمري الذاهب بغير رجعة ، فأيّ مُضغةٍ بَعْدها تتخلّقْ .. لنْ يتخلّقْ آخر بَعْدهما .. وكأني اهزأ على نفسي .. مَن يتمنى تلكم الكوكبة ، يجب أن يكون عُمره أقل بكثير من أربعينية السِنين ..؟! لحظتها كان رجل جميل ، يقف قُبالتي .. لم أتبيّنه اهو عبدالله أم غيره .. لكنّ حدسي لم يذهب بعيداً ، حينَ أيقنتُ انه قريب الشّبه من صُورته الآدمية . واجهني بأسئلة كثيرة .. من يتحدّى رغبة ليستْ له ، فكُلّ رغبة ولّتْ لا تعود ، ونزعة السنين لا يقدِرَ عليها أحدٌ .. فإنْ حيتْ رغبة ماتتْ أخرى ، ومن يموت لا ينشأ إلا بقدرٍ وكلّ مُقدّرٍ له قدر ورزق يحمله في كتاب .؟فالنفس لم تَعُد بيدها فِعْل طريق الحياة ولا صُنع البقاء لنفسها ..!؟ تموت وتبقى وِفْقَ طبيعتها .؟ فلعلّ خيرٌ تعلمه النفس ، ثمّ تهجس ظنّاً فيه ، ورُبّ ظنّاً تتوجّس منه النفس فتنقلب على عَقبيْها من شرٍّ قادم ، ولكنّ الخير يكون فيه ..! فكلاهما في غّيبيات ، وأنا أدلّك على صنيعٍ جميلٍ .. إياكِ أنْ تحملي الظنّ القَطْعي أو الجزْم في الشرّ والخير ..؟
    عند لُبنة الفجر وبياضه كانت بسمات الصباح تشقّ عن روعةٍ مكانٍ أخّاذٍ أبهرني جماله وأنا ارقبه ، أطالعه بقوة نظرتي ، فينتشلني من غفوةٍ التخايل .. وبدوتُ أستفيق .. وتأكدت أنّ ما كان ، ليس إلا مجرد تخيّل .؟! وجّهتُ وجهي صوبَ طريق جديد واسعٍ للسيارات تمخره جيئةً وذهاباً ، قال عنه احد كبار المسئولين مدافعاً عن هذا المشروع ، وأنا أتأمله على امتداد نظري ، اسمع هدير أصوات عجلاتها واحتكاك هيكل أجسادها في أصوات بعضها ، تجوبه سياراتٌ صغيرة وأخرى كبيرة ، ومركبات ضخمة بُحمّلة بأطنانٍ ثقيلة.. باكرةً وفي الغداةِ لا تهجع عن أزيزها وهديرها وأصواتها العالية وهي تخترق حارة ساكنة هاجعة ، لها تراثها البعيد الغارق في أعماق تأريخها العريق ، هذا ما استفزّ به قاطنوها ، ولكنهم خيّبوا موروث شديد الخصوصية المكانية ، موروث حكيَ بالصُورة الباقية سيرة الأجداد وقوة صلابتهم ، ولهذه الأسباب كان عبدالله ومن معه يرفض بشدّة تكرار تواطؤهم وتنازلهم لأجل هَدم بُنية القرية بكل ما تحمله من موروث عريق ، إذ كان يُردد إن سمحنا نحن اليوم ، فمن يضمن أن تغفر الأجيال اللاحقة لهذا الخطأ الجسيم ، أهم تركوا لنا هذا الإرث الكبير ، من اجل هدمه أم اجل الحفاظ عليه .؟ لا تطربني أصوات السيارات والمركبات كبيرها وصغيرها وهي تسير في عرض الشارع وأصواتها المُزعجة تعلوها ، كأنّ أجسادها تتصادم في بعضها وهيَ تمخُر عُبابه وتشقّ بهديرها راحة الساكنين وتُقلق ساكني البيوت المُطلّة بردهاتها على قارعتها المُنبسطة في الرَوْحة والعشيّة بأصواتٍ مُزعجة لا تكفّ عنها ..! شوارع ضخْمة فسيحة تزيّنتْ بأشجار الزّام على جانبيها ، فبلدية الحارة تقوم بتشجيرها ، وفلسفتهم ، لكيْ تمنح السالكين في سيرهم السريع بثاً من السّكينة وتمنع حرارة الصيف وتحمي أكتاف الطريق من أي مُعتدٍ من داخلها أو من خارجها ، كيْ تبقى زينتها التي تزيّنت بها في ديمومة البقاء والتواصل ، وليكون قائد السيارة على ربيعٍ من الاسترخاءات مُنبسطاً على طول امتداد المشروع الكبير التي تأمل به الوطنية أن تُثمر امتداداته بشيء من التناغم والحيوية المُرهفة ، يخترقه هُدوء ينساب إلى الساكنين من كل مكان .. ناهيك عن محطات البترول ، بكل ما تحمله من أداة ترفيهية بزخم مُرهف واسع يُعبّر عن رُؤية العالم الجديد بأحاسيسه الجديد غير المسبوقة في عالمنا المحلّي .. وحسب ـ اعتقادي ـ من هُنا جاءت فكرة إعطاء المصلحة الوطنية شيء من الجدّية لأنها مصلحة مُقدّمة على المصالح ذي النّفْعيّة الفردية .. سِيَما أن التطور الحديث يعني تمدّن البشرية ، ولكل مشروع غاية وكُلّ غاية فيها فجوة وطالما هناك فجوة فلا بُدّ من هفوة جوادٍ ، أيضاً .. ويرى المسئولون ، المُنَظّرون للمشروع الكبير، انه في حالة كبْوة الجواد أو حصول هفْوةٍ ما .. يُستحسن أن ينهض الجواد من كبْوته .. كيْ لا يكون مُثيراً للجدل ، بكبوةٍ لا يستنهض الهمِّة فيها ..!! ولهذه الأسباب تَحْملنا أن نتقبّل الآخر وتُلْزمنا أن نعفوَ عن هفواته .. فالغايات الفوقية لا تُوجب أن تعلمها الرغبات الدُّونية .. فلكل غاية هدف ، ومن كتْفِ الهدف تظهر غايات محددة أو غير مُحددة .. ترسمها المصالح ..؟! لذا يتوجّب علينا أن نَسُد الفجوة إذا صدرتْ منها هفوة لا نُحبّذها ، بقدر ما نتمكّن من تمحيص الوسيلة من خلال الأهداف والغايات لتكون دقّة الوصول إلى حيث ما يسرّنا وننتفع به ، فمصالحنا أهم بكثير ، من تراثٍ بالٍ لا يجني لنا شيء من مصالح ومنافع وطنية ولا تُمكّننا ماضيها من التعايش السّلْمي ، فلسان حالنا ، هو مُبتغى المعارف الإنسانية من مُنطلق وخلقناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا ..؟! ، كان هذا الموقف المشؤوم ، حوّل عبدالله إلى نهايةٍ سَوداء .. أتذكر يومها يا ـ أحمد ـ والمسئول يَسْتعرض على أبوك تفاصيل فكرة المشروع ، صرخ في وجهه .. ليس هذا هو التعايش .. لا نبْغي تعايشاً إن كان يحمل في فكرته مَفْسدة ، فنحن في غِنى عنه .. ! أموت هنا . ولن اقبل بشيء منه .؟!! ويوم ذاك حاولت أن أحاوره ، أن أقنعه وقد جلستُ معه كثيراً وتوددت إليه وحاولت ثنْيه عن عزْمه فلم استطع إلى ذلك سبلاً ، إذ كان مُصراً وعازماً لان تذهب رُوحه فداءً ويكون ثمنها حينَ يعلمَ الناس والأجيال اللاحقة ، أن القِيمْ تُورث وأنّ تُراث الآباء باقياً وموروث الأجداد خالداً ، كنتُ يومها أتودد إليه أن يسمعني :
    - طيب دَعْنا نحمل ما يُمكّننا حَمْله من متاعٍ وأثاثٍ ، كيف شئنا وارتأينا إلى أي جهة نُريدها ، ونعتصم بحبْل الله ، فندّنا ورفْضنا لا يُغيّر شيئاً من نزع المُلكية وذريعة المصالح الوطنية .!
    - ضحك ، باستفزاز .. ونظر نظرةً قاسية ، ماذا بعد حُفْنة المال التي تلقيناها ، أليستْ هيَ بشفقة وإحسان منهم ؟ أليسوا هُم القادرون على أن يحرمونا من كُل شيء، بذريعة المصلحة الوطنية ومرجعيّة الشراكة الدولية .. أهذه هيَ المنفعة المُجتمعية ، أنْ نبخس حقوق الوطنية ، ونمحوَ كل آثار جميل لمكانة الأولين ، كيْ لا يبقى للأجيال ما تعتزّ به وترفع رأسها بمجدها التليد .؟! أهذه هيَ عزوة الشموخ .؟! وهل المال سيغيّر شيئاً أو سيضيف شيئاً عن سنين مراتعنا ، فالبيت والحقلَ مَنْزوعا الملكية ،وفي غمضة عيْن يكونا مسحوقا البُنية ، دكّاً دكأً ، يتساويان والتراب .! فهل المال أضاف شيئاً أو بدّل شيئاً أو جاء بشيء جديد ، غير الذي فعلوه ذُلاّ وهواناً .!؟ سكتُ وبقيتُ صامته ، لكن إلحاح أحمد أن أكمّل تفاصيل المأساة التي وقعتْ بأبيه وقريتنا وبقية الرجال الذين كانوا معه ، جعلتني لا أُخفي سراً عليه ، وإن كانت هي أمانة على رقبتي ، تركها لي عبدالله ليعلم أبناءه وغيرهم من الناس .. فقلتُ بعد حمحمةٍ ، وحُرقةٍ اشتدت على حنجرة، وبقيت في سعالٍ مُستمر ، عندها ركض احمد مهرولاً ، وأحضر معه كوب ماء ، فشربته جُرعة ، جُرعة ، كأن هذه الجرعات كآخر ماء اشربها من هذه القرية الساحرة بتراثها ، تخلب ألْباب الناظر إليها ، وتأسر الأفئدة بمراتعها الجميلة ، وبساتينها النديّة ، ونخيلها الباسقة وأشجارها الغنّاء ، وجبالها الشامخة وتُربتها الطينية الصفراء التي قيل عنها يومها ، أنها أفضل تُربة صالحة للزراعة ،.. سألني احمد ، كيف كان حال رجال أبي يومذاك يا أمي ؟ ، تنفستُ الصّعداء، وأردفتُ:
    - كانوا يا ـ بُني ـ أشدّاء على غيرهم رُحماء بينهم ، مُتعاضدين ، مُقيمي الصلاة ، قلوبهم عامرة بالإيمان ، راضين بعيشهم وقانعين بفضل ربّهم ، ذي أنفس عالية بالتوادّ والمحبة والتآلف ، سُلوكهم التآخي والتقارب .. جمعت أكثرهم كلمة واحدة ، لا .. لمصلحة تُفرّقنا ..!!
    قلت لامي بهدوء :
    - يا أمي ، لو تُخبريني أكثر دون توقف ..؟! تلك لحظات جميلة بعنفوان الجرأة والعزّة ، ولو علّمتيني إياها ، لسلكتُ طريقها ، وتفكّرت في فهْمها ، فإني أراني على قوة سجيّة تدفعني للالتزام بها .. مُؤكداً حُضورها المعرفي ، مُرسخاً مبادئها القيَميّة ، مُقدّراً جُهود الأولين ومُحترماً رأي الباقين عليها .. فماذا أنتِ قائلة ..؟!
    هزّت أمي رأسها رغبة مني في تواصلها .. فاردفتْ:
    - في تلكم اللحظة القاسية ، لحظة حوارنا الجدلي .. كنتُ أستعجل الشمس كيْ تتوارى ، وتأتي الظُّلْمة ، ظُلمة الليل ، فجمال الأشياء في الذي يأتي خَلْفها ،ثمّ الذي يأتي عَقِبَها .. فكما يُقال أنّ لِلّيْل أقدام يمشي عليها على غير أقدام النّهار .. فلعلّ عبدالله يرضى وتَسْري في نفسه الطُمأنينة إذا جاء سِتْر الليل .. أنصت يا ـ بُني ـ سأتخايل تلكم اللحظات ليس إلاّ ولكن سآتيك بما هو أجمل منها ، لحظات مسكونة بسرّ أو لُغز عمي عبدالرحمن .. أغمضتُ عيني ، واستمريتُ في سرد الحكاية .. وكأني أحسستُ بـزوجي عبدالله يلكزني بطرف عصاهُ ووجه مُقطباً :
    - أتعرفي ذاك الرجل السمين .؟
    أمْعنتُ النظر فيه :
    - إنه عمّي عبدالرحمن الذي أصابته ارتعاشة هوس ، فارتحل عنّا ولا نعرف عنه شيئاً ، حيّا أو ميّتاً .!
    - لكنّ الأهل اعتبروه في عُهدة الغائبين حتى يَؤوب ..
    - لماذا..؟!
    - هكذا هو تُراث ديننا يَحثنا أنْ لا نستعجلَ في تأبين الغائبين إلاّ إذا تأكدنا من حقيقة موتهم إطمئناناً بشهادة الثّقات .!؟
    زحفتُ إلى أمي ، وضعت رُكبتاي على رُكبتيها، وقلت :
    - لن تُغمض لي جفن حتى اسمع آخر هذه القصة المشوقة . إني أجدها ذات مغزى ومعاني رفيعة ..!؟
    وبدت أمي في سرد الإحداث في لذة السّر وسُكون صوتها وهدوء نبرة حديثها :
    -إني أتخيّل هذه اللحظة ، إذْ كان عمّي يُمسك عصاهُ بيده ويهزّها في وجه رجلٍ هزيلٍ .. تذكرتُ ذاك الموقف .. وأنا صَغيرة ، قِيْل لي ، أنّ أحداً من الرجال ومعه مجموعة صغيرة ، جاء إلى عمّي ، لينتزع منه " اللِّياخ " شباك الصيد التي استولى عليها أبي وجماعته في عرض البحر ، وكان ذلكَ الحدثَ ، إِثْر خلافٍ قديم ، موثقاً بعضه ، وأغلبه مُتناقل على السنة الرجال .. إذ كانوا يُلقون شباك صيدهم ، بالقرب من حُدود اتفق عليها ـ سلفاً ـ أنها مُحرّمة على شباك الجرف ويُسمونها اليوم " الجرْف القاعي أو القارّي " اؤلئك الرجال كانوا من قرية مُجاورة رفض عمّي وجماعته مُقابلتهم بحجة نقضهم ما تمّ الاتفاق عليه مع أهليهم الأولين .. وكان من ضِمْن المتفق عليه ، أنْ لا يرمي البحارة شباكهم باللّيل خلا النهار فقط وعليهم أن يأتونها في وقت لاحق قبل " سُلوم الشمس " أي قبل زوالها ومَغِيب قُرصها .. وحين خالفَ الرجال الاتفاق ونقضوا عهد آبائهم ، قام عمّي وجماعته بإقلاب قواربهم وحَمل ما استطاعوا إلى حَمْله ، وخاصة تلك الشباك المُتنازع عليها في حُدود المياه الواقعة في حوزتهم ، حسب الاتفاق القديم ، وحُجة هؤلاء ، أي رجال عمّي ، أنهم يفعلون ذلك لتبقى الأسماك تتوالد وتتكاثر ليلاً وبالتالي أن هذا المكان قريب من سُكناهم ، وحُجة أولئك الرجال في ذلك ، أنّ هؤلاء ، أي أصحاب عمّي ، لديهم قوارب صيد صغيرة وشباك قليلة ، فلو يشتركون معهم لكان خيراً لهم .. لكن أصحاب عمّي عبدالرحمن ، يرفضون ذلك ، وحُجتهم في ذلك ، أنهم قانعين بما يُطعمون به أهليهم ، مما يقومون به من صيد السّردين ، مُستفيدين من بيعها بعد تجفيفها ، فيقومون بتخزينها ، سواء أكانتْ للبيع أم لإطعام الحيوانات ، ولذا فَهم لن يسمحوا لغير رجال قريتهم بأنْ يشترك معهم في الإبحار في سواحل قريتهم ، طالما هناك اتفاق قد سبقهم بسنين ، وفي إطار الحدود المُتّفق عليها لا أكثر ولا اقل من ذلك .. لكنّ أهل هذه القرية يرون مالا يراهُ أصحاب عمّي ، أن الزّمان قد تغيّر وان تلكم الاتفاقية مضتْ عليها سُنون وعلى هذا الأساس ، فإن الاتفاقية المزعومة تسير وفق تقادم غير مرغوب فيه ، ويحتجون أيضاً أن " لياخهم " شباك صيدهم ، كبيرة ، اشتروها بمثن غالٍ جداً مع سُفن كبيرة وواسعة لتتماشى والغرض المطلوب تأديتها عليها ، فهيَ تعمل على طريقة الجرْف .. وهذه الطريقة ليستْ ممنوعة في البلاد الُمجاورة ، فلماذا تستحوذ عليها قرى ظاهرة عن أمر مسؤولية الحارة كُلّها ، فجميع قُرى حارتنا لا تختلف عن غيرها من القُرى في المسؤولية المُشتركة ..!! كما يرونَ أن التحكّمَ في مياهٍ كهذه من شأنها ، أن يكون مُدعاة إلى تقسيمها على أساس حُدود مياهٍ مُتفرّقة ، بينما العالم الجديد يسير وفق وحدة واحدة ، فلا يجوز هذه في حوزتهم وأُخرى في حوزة غيرهم ، وهذا العمل من شأنه أن يُقوّض الجُهود الرامية إلى تحديد السيطرة الكُلّية على الثروات جميعها ، لأنها في الأساس ليستْ بحق لهم دون غيرهم ..! وعلى مبدأ هذا الاختلاف في الرأي ، قام عمّي عبدالرحمن ومن معه بالاستيلاء على شباكهم ومُصادرتها مُصادرة نهائية واعتبروها غنيمة وقسّمها على الرجال ، فاستشاط الخصْم غضباً ، واندفعوا يشكونهم ورفعوا مطالبهم إلى جهات عُلياء ، كانتْ سبباً رئيساً في إذكاء الفتنة وتمزيق المُجتمع الأمن .. وبما عمّي عبقرياً ، حسن التصرّف ، حكيماً في كل المواقف ، أشتهر بذكائه المتّقد .. أخفاها في أماكن آمنة ، بطريقة مُتفرّقة .. وقدْ نفى قيامه بهذا الأمر .. وادعى أن رجال خَصْمه هُم من قاموا بالاستيلاء عليها وإخفائها .. وأنه علمَ أن رجالاً هربوا من موقع جرف الصيْد وأنه يشكّ في ولائهم للخصْم ..!! هكذا ـ يا ولدي ـ أتذكّر كثيراً ، تكاد التفاصيل أجدها كشريط يمر عليّ ، اختزله عقلي ولم يُغادرني أبداً .. يومها يا ـ أحمد ـ ، جاء مسؤلاً من القرية الكبيرة التي كانت على تداخل اجتماعي وعائلي مع قريتنا .. فرفض عمّي استقبالهم كما رفض عرضهم جُملة وتفصيلاً ، حتى النقاش معهم ، جعله باباً مُغلقاً ، لا احد يقترب منه ، لأنه كان يَعدّ ذلك تنازلاً وقبولاً مبدئياً لخيانة القرية وأهلها ..! ما لمْ يُعلنوا قبولهم بالاتفاق السابق ، وبَعْد ذلك ، يُمكن الجلوس والحوار على كل شيء يَرونه في حاجةٍ إلى مُعالجة استثنائية ..! وبهذا الرفض من الجانبين لم يُتمّ التوصّل إلى اتفاق مُعلن .! وما علمته أنا أخيراً .. أن رجلاً كبيراً جاء إلى عمّي .. وسلّمه شباك الصّيْد " اللّياخ " ودفع عمّي مالاً عن قيام رجاله بإتلاف بعضها .. وبعدها بأيام اختفى عمّي كُلياً من القرية ، خاصة بعد أن انتابته موجة من هوسٍ لم يُعرف عنها شيء .! بكتْ أمي بحرقة ، واندفعت تذرف دُموعها .. حاولت أن اقترب منها كثيراً .. لا تهتمي يا أمي .. سأكون كما تمنيتُ لن أضيّع شيئاً سار عليه الأولون إلا في حدود ما يسمح لنا بالتجديد وفقَ تعايش الحاضر والمُستقبل الآتي .؟ تراءتْ أمام عيني ، أغصان الأشجار والنخيل الباسقة ، تسحقها الجرّافات ، تقتلعها من عُروقها ، من ساسَ تجذّرها في أعماق التراب .. تميل بعذوقها إليّ وتُخْفي ابتسامة ثمرتها ، تنحني بثمارها باسقة بعُذوقها فتتلألأ أغصانها ، تُوميء إليّ بإشارات خفيّة لا أحد يَعْلمها غيري ، إشاراتٌ رمزية استخدمتها أشجار الحقْل نظير تلك الأُلفة التي كانت بيننا ، كأنها تستغيثني وتحتمي بي .. وآنا غارقاً في غيهب تخيّلاتها ، كما وصفتها أمي وكما أنا شاهدتها قبل ذاك ، سألت أمي :
    -وماذا فعلتِ لحظتها ، وأنتِ تُشاهدينَ التعّب والجُهد ينتهي أمام مِرأى عينيك .. ؟!
    -نظرتْ أمي فيّ وجهي نظرةً عميقة ، ذات مغزى .. لحظتها يا ـ أحمد ـ ولم تستطع أن تُكمّل .. ذرفتْ دمعاً ، وتنشّجتْ ثم رفعت طرف لحافها ، وضغطت على اُنفها بهدوء .. ثم دعكته في أطراف لحافها وكأنها تُخفي حركتها عنّي .. يومها يا ـ بُنيّ ـ لمْ استطيع فِعْل شيء ، فعمي ذهب ، وهذا زوجي ، ذاهبٌ بغير رجعة .. ماذا يُمكنني فِعْله يا أحمد ، وأنا إمرأة .؟! لكني استطعتُ أن اجمع المعاني القيّمية وأُرسّخها في فهْمك ، كي تعلمَ أن التعبير عصبٌ يمتدّ إلى أجيالٍ وأجيال ، وقد تفقد عباراته الأدبية صُور أفكارها نظراً أن الذهنَ الآتي لا يتلقى التأليفَ توثيقاً ، فلكل جيلٍ مَنْسكاً ووجهةً هو مُولّيها ، وأي جيل آتٍ لا يتزهّد بقيمْ الأولين لا تنتسقَ تعبّداته القيمية ولا تنزرع في نَسَقِه ، لأنه وقتها يكون غير قادرٍ على حمْل أفكاره إلى غيره بأسلوب الأمر والنّهْي .. والتأليف ، التوثيق منه قد يحتمل صواباً وكثيراً ما يشوبه مُغالطات الخطأ وقليل هُم الثّقات ، الذي يُوثّقونه بصدق ، وأهل الدار خير من الذين يكتبونه خارجها .! وكما يُقال أهل مكّة أدرىَ بشعابها ..؟! ولا تنفع نفساً أن تقول ساعتئذٍ ، ليتني مِتّ قبل أن أرى جرّافاتٍ تسحق مالي ، وتُبعدني عن أهلي وتُقصيني عن بيتي وبُستاني وتُمزق أواصر محبة قريتي وألفة جماعتي .! فقد تُنسى الأشياء نسْياً مُتعمداً أو غير مُتعمّد ، لكن الأشياء التي تُزعزع مكانة قيمة التزهّد والتعبّد ، تبقى مُختزلة لأنها تمسّ الذاكرة القيمية وإن ماتتْ ..!! سكتت أمي .. تخايلتُ ، وانبسط التخايل كحلم ، انظر إلى أبي ، يدهُ مكتوفة ، وفمه مُكمّمٌ ، يُحاول أن يصرخ ، أن يُناديني ، إلا أن صَوته كان مَحْبوساً ،وأنا أحاول أن ازحف نحوه ، اجرّ رجلي بتثاقل ، عربانتي ادفعها بيدي ، نظرتُ فيها ، جسد أبي مُثقلٌ بها ، اشترك بي أمرها والتبسَ عليّ شيئاً من مِثْلها .. كيف يكون أبي في عربانتي ، في وسطها وقد جلس بقرفصائية مُحتدّة كخائف أو هارب من شيء أو كمنْ يلوذ بجسده الضعيف فيحتمي بي ، وتساءلتُ بسرية تامة ، يحتمي بـ العربانة ..! دقّقتُ النّظر وتفحصتُ صورته ، إنه هوَ حقاً ، أخذت ابتسامته حيّزاً مكانياً فاتّسعت في أرجاء أحشائي .. تملّكتني ، كانت اللّيْلة طَخْواء ، شديدة الظُّلْمة ، لكن نور أبي مُشرقاً باسماً وجهه يتلألأَ حُسْناً .. شنّكت جفنيّ وتوسعت أطراف بُوزي ، هممتُ لامسكَ بجسد أبي .. أحسستُ بأني انتفضتُ وعلى أثرها استفقت ، ثمّ سالتُ أمي ، كيْ أجعلها مِحْور حديثنا :
    -ماذا فعلتِ ؟ لم تُخبريني .؟! " كيْ لا تفهم أمي أني ذهبتُ بعيدا.."
    -ابتسمت امي ، ولم تُعلٌق على كلامي ، احسستُ انها تنظر في الافق البعيد .. كأنها تتعلّق به ..تتناغم مع شيء ما .!
    - ماذا يُمكنني فعله يا أحمد يومها كانتْ نفسي مكلومة بأعزّ ما عند زوجي ، فهل يُعقل أن يكون هو صَريعاً فيصرع ما تركه معه .؟!
    نظرتُ إلى أمي ، فوجدتها وهي تُلوح رأسها أسفاً وندماً غليظاً القلب ، كأنما فظٌ نزل بها فجأة ، ثمّ نظرتْ إليّ بقوة ، واهتزّت مع كل حرف ، كمْ تمنّى أباك أن تكبر لتشهد على كل شيء ، كانت أُمْنِيّته تربيتك أحسن تربية ، على أخلاقيات الرجولة والعزّة والشرف وقيمٌ فاضلة كانت تلكم في مُجملها مدرسة للشموخ .. فأؤلئك الرجال الذينَ غادروا قريتنا وأهلها كانوا يحملون مشاعل القيمِ والفضائل والعزّة ، وبمغادرتهم لم يتبّقى شيء من ريحة قِيَمهم إلا بعضاً من قيمٍ مُتهالكة ، ذهبتْ لتنتحر في عُرف معاني القوام الرغيد الذي لا يَحمل في أُسّه معانيَ صادقة بذات القيَمْ العالية ..غير كلام كثُر رُوّاده وتعالتْ أصوات مَنْظُورةً بلا وازع من قِيَمٍ فاضلة غير الدَسّ في الجيوب . وشبْع البطون ، وبهكذا قِيَم بَقِينا بلا أهليّة في التصرّف في ما نَمْلك إطلاقاً.. فتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الفردية ، أمرٌ مُتّبع وقانوني في مشروعٍ الوطنية السياحي ، وكثيراً ما تداخلتْ مصالحه في جيب المُخلصون كونه مشروعاً كبيراً يحمل ، كومةً من عُري صارخ ، باتتْ كوماته في درجات تأخذ في التصاعد والأخرى ذي التقليدية تأخذ في الانحسار ، وحينها وقعْنا في مظنة الاسترشاد بغيرنا تربّصاً منهم وعداءً دفيناً يُخفونه في صدورهم ، بُغضاً أقبح من وجوههم التي تشكّلت كموجات الصقيع والبَرد الذي ابتلوا به ، من بعْد أنْ نصبوا شِرك العداء البغيض ، منذ بعيدٍ على أهل هذه القرية التي كانوا يَتناهَوْن بينهم عن كل أمر مُريب .. فلا تهتم أنظمتهم بجذورنا ولا تلتفتْ أعينهم إلاّ إلى مصالحهم ، ولا يُعيرون قضايانا اهتماماً ولا يجدون لنا استحقاقنا .. رِجَالُنا ، يا بُني، هم من عاش في قريتنا قديماً ونحن من نعيش عليها حديثاً ، ومصيرنا آخذٌ إلى الزوال إن لم نهتم بمصيرنا أو يلتفت رجل مِنّا إلى أحوالنا .. وأما أؤلئك المأجورون بالحق السياحي ، هُم أصحاب عَرْبدة استخفّوا بأحوالنا فصاروا عبدة للمال .. وما أباكَ إلا فقير ، بائس لا حول له ولا قوة ولا ظَهْرٍ يحتمي إليه ، فمن لا يُسْنده ظَهْر ، يسقط وهو يتراجع إلى الوراء .. وقِسْ هذا في كل شيء ..! سكتت أمي ثم أردفت بعد تنهيدة عميقة :
    - يجب عليك ـ يا بُني ـ أن تلتزم بالحس الوطني حتى لو كنت مقهوراً أو مظلوماً أو مكلوماً ، فها أنت لا أباً لك اليومَ وغداً لا أم لك أيضاً ..! كان أبوك مُتمسكاً بالمكان ، وقد رفض أكثر من مرّة ، فكلما أُخْرج منها عاد إليها في الليلة التالية .. حتى جاء حُكماء القرية المأجورين ، لإقناع أبيك .. وبعدها بقيَ في صَمْته حتى نهايته المشئومة هذه التي تراها ، وحين نسألهم عن التعويض النقدي أو البديل ، كانت الإجابة حاضرة :
    - يَلْزمكم أن تَخْلو العقار أولاً " الدار " ثم يأتيكم " المالْ " تالياً ، لكني حين اجلس مع أبيك ، وأفهمه ، ان يُوكّل الأمر لله وحده ، يقوم من مكانه ، وتنعقد جبينه ويَصْفرّ وجهه ويتلوّن بلون الغضبْ القاهر ، يتصاعد الدم إلى قمّة رأسه بأثر الضغط النفسي ، فلا يجرؤ بكلمة واحدة نظراً للحالة التي يعيشها من يومها ، فقط يُراوحْ مكانه بين الحقْل وزريبة الغنمْ .! ويحتضن ( الْجِدِي ) ذكر صِغار المعْز ، يُؤكد لي مرات كثيرة أنه لكَ وحدك لا يُشاركك احد فيه ، ويمسح بيده على ( الحَمَل ) أنثى صغار الضأنِ والتي أهداها من قبْل لأختك الصغيرة في يوم عيد .. يُمسك بالأوتاد ، ويُوثّق رباطها .. كأنه يُوطّد العلاقة الأزلية بها ، يتوسّل إليها كيْ لا تُبقيه مُشرّداً أو تتخلّى عنه ..!
    قَبِل البعض بشُروط الإلزام بغير رضاً وقام بإخلاء البيوت والدّور والأعشاش والمزارع والبساتين المُثمرة والزرائب الرعوية والحدائق الغَنّاء ، وبعْد أن سَلّموا وثائقهم ، بقوا في قائمة الانتظار إلى حين تأتي خُطْوة تعويضهم " نقداً أو سُكنى " كيف شاءتْ أقدارهم ، فلا حقّ جدليّ لمن نُزعتْ مَلْكية أمواله ان يعود إليها ثانيةً ، أوْ يأتي بمرّرات تالية أو حتى يتفوّه بكلمة خارجة عن قانون المصلحة الوطنية وإلا حُرم منها وعاش بائساً بلا موطن ومُحبطاً بلا مصلحة .. قال احد الرجال الذين كانوا مع أبي كأنه يُخاطب نفسه ، وأخذ يهزّ رأسه ، وضلّ صامتاً يُقلّب كفّيه :
    -لقد خسرت الكثير وإن خسرتُ البيت والبُستان والارض الفضاء ، شيء عادي ، مقابل الوطنية ومصالحها ، كنتُ انوي أن أجعلها زريبة لحيواناتي التي صارت الآن إلى 20 راس مع أغنام أختي ، لانّ بلدية منطقتهم مَنعتها من تربية الحيوانات حتى ولو في زريبة ذلك لان المنطقة برمّتها قد صُنفتْ من قبل عامنا هذا من القُرى الريفية ، نظراً لما تتمتّع به القرية من مناخٍ ريفي على مدار السنة ومناظر خلاّبة تجذب السائحين إليها وزائروها من مختلف الثقافات كما أنّ تمسّك أهلها بعادات وتقاليد قديمة أضحت اليوم في عين الموروث العالمي الجديد ، زد على ذلك فإنّ المنظمات الدولية سجّلتْها في قائمة التراث العالمي بمعنى آخر أنها ستكون مُستقبلاً ذات صِبْغةٍ سياحية عالمية لا يحقّ لأهلها أن يُضيفوا على مَبانيها ولو طوبة واحدة ، أو أن يستمتعوا بجمالها .. وسارعت هذه المنظمات ذات صبغة المحافظة على التراث العالمي ، بأنْ تسنّ القوانين المُنظمة للحفاظ على وِجْهتها الصحيحة ، مِمّا دفع بالمسئولين أن يرفعوا أيديهم عن أي قرارٍ يُتّخذ بشأنها ، لأنها أصبحت ذي صِبْغة تُراثية عالمية ، وخرجت من طور محلّيتنا ، هذا ما قالوه وبالحرف الواحد ، حتى لو أدّى ذلك إلى خُروجكم مِنْها .. فتطبيق رغبة المنظمات العالمية خيرٌ من أهلنا الذين لا يتحلّون بوعي المَسْؤولية ومنافعنا المُشتركة خيرٌ وأبقى من مُجرّد زرائبَ مَبْثوثة وبيئةٍ خالية من الصّحة .
    قال المهموس إليه ذي شُعيرات معدودة ، مُتفرقة كما لو كان رأسه قد خلا منها :
    - نعم ، قد سمعت هذا من احد أقاربي ، فقد اعتبرتها حيواناتنا كما لو كانتْ سائبة وإنْ كانت في زريبتها ، وحُجّتهم بقاء القرية على بيئة نظيفة ، خالية من أهلها لتبقى أكثر بياضاً من قلوبهم المكسورة فالمنطقة ذات وِجْهة عالمية ولا يُمكن التفريط فيها .
    قال الهامس ، ذي أنف فطسةٌ انخفضتْ قصبتها :
    -نعم والله ، حتى أغنام فطومة " اختي " صارتْ من حق البيئة .. بدا وكأنه في تعجّب ، ثم أكمل ، وحين علمتُ بالأمر .. وكأنه لم يستطع إكمال حديثه ، تلمس بيده حنجرته كأنه صوته صار ثقيلاً .. سكت بُرهة ، كأنّه غَصّ بشيء .. ثمّ لوّح بيده وقلّب راحتاها في ضَعْف ، غريبة والله غريبة .. أغنام فطومة صارتْ عدوة للبيئة وإخراجها من زِرِيْبتها تكون صديقة للمصالح الوطنية .؟! دمعت عينه ، سكت ثم أردف : أنا واثقٌ بأنها شديدة ، قوية المِراس ..!؟ولكن ماذا تظنّ هيَ فاعلة .؟إذا تخلّى المأجورين عنها ..؟!
    قال المهموس إليه وقد مطّ بوزه بعدم رضاً :
    - لاشيء .
    فأكمل الهامس حديثه :
    - لم تفعل شيء حقاً ، سوى أنها غمغمت بشيء من القهْر ، ثمّ صكّت وَجْهها وصاحت وَولْوَلت ثمّ توعدت ، ولكن توّعدها لم يُثمر بشيء ولم يأتي بنتيجة ، سوى انه لمْ يكترث إلى مطالبها احد .؟! حثتْ التّراب على وجوههم .. كان أكثر شيء يُمكن أن تفعله ـ وأيضاً ـ لم يهتم بها احد ، حتى الأقربين تخّلوا عنها ، وحين وصلتُ إلى عندها ، كان موقفها لا يُوصف ، موقف بائس ، مُحبط ، تناغمَ مع الذلّ وبسط القهْر نُفوذه في نفسها وبلغ الضّيْق مَبْلغاً ، فحبستْ أنفاسها ، ولم تخرج منها ، حتى غادرتنا روحها الطاهرة . وعُدّت كأول شهيدة بالقرية.! بَعْدها ابتأستْ القرية يا حمود كثيراً ، شُحّت مياهها ، حتى اعتقد الأهالي أنها نقمة السماء قد حلّت عليها ..! تاهتْ عيناه وهما تفيضان، عندها استغرقته حالة من التفكير والذكرى ، قليلاً من الصمت بدا عليه ولو كان قاسياً .. سحبَ قدميه المُنغرزة في التلّ ذي الرملية المشوب بالحجارة غير الخشنة ، واخذ يمشي ، فتناثرت حَبّات الرمل الصغيرة الصلبة وهي تنزلق من بين أصابع رجليه وحوافّ قدميه .. وتمتم ، أحبك يا قريتي رغم قِلّة معرفة الآخرون بك .! فهل زرائبك وطُرقاتك تضر بالبيئة ، لم تكنْ نيّة فطومة ولا حتى في نيّتي قبْلها أن اخرج منك ، حتى لو جرّدوني من ملابسي وعُرّيت أخلاقي فيك .. كما فعلوا بفطومة ماتتْ دونك .. حتى بحّ صوتها وتقطّعت أَحْبالها ، ليس لشيء أكثر من انْ يُريدوا ان يُخرجوها منها ، فقد عزمتْ في جدّية ، حتى خرجت منها ميّتة وليتهم تركوها فتدفن في مقبرة القرية بل سمحوا بدفنها في سفح جبلٍ ، كي لا يصل إليها احد ، أو لا تكون قِبلة الحريصون على الاقتداء بها .. أو السّيْر على أثرها.!
    قال ذي قصبة الأنف الفطسة للمسؤول يومئذٍ :
    - لا يُمكن أن يكون خروجنا من سُكْنانا هذه إلى سُكنى أقلّ منها أو أن تُفرّقوننا ، نحن نريد ان نكون لُحمة واحدة ، أسرة واحدة لا أُسَر شتّى ، أُسرة واحدة جمعتنا قريتنا مُذ نعومة أظفارنا..؟
    فجاء رد المسؤول ، قاطعاً صارماً ، فقطّع أرحام قريتنا وفرّقها تفريقاً ، ومزّق أواصرهم تمزيقاً ، فتكلّم بلهجة غليظةٍ كان لها بريقاً وطنياً ، وَومْضةٍ من مصلحةٍ جاذبةٍ :
    - لا تُمَنُّوا أنفسكم كثيراً، نحن شركة مُنفذة ، لا دخل لنا في شيء تختلفون فيه مع أهليّتكم ومُواطنتكم الكريمة ، فكما قِيْل لنا ، قِيْل لكم .. لا تختلفوا معنا ولا نختلف معكم .. لكنا نستطيع أن نجزم أن الدار التي سوف تستلمونها كبديل عن دُوركم الأُوَل .. أن الاخرى تصلح إلى أكثر من رُؤية مُستقبلية ، واحمدوا الله على النّعمة ، فكُنتم في بيوتٍ قديمة مُهشمة جُدرانها ومُحَطّمة قوائمها ، بعضها خربةٌ ، وكثيرهُا لا أساسات تقوم عليها ، ولا قواعد راسخة تعتمد عليها ، بناؤها تمّ عشوائياً .. غير مُستوفٍ لأهلية البناء والعِمَارة الصحيحة ، مُعرّضة للكوارث البيئية .. مساكنٌ القرية المُختارة هذه ، غير تلك التي تمّ اختيارها عالمياً ، فهذه لا تحتمل قوة الزلازل والعالم اليومَ يشهد مُتغيّرات حتى في هزاته الأرضية وغالباً ما تُصَاحبها انهيارات سطحية .. لا ترقى إلى ما يُريده المسئولين ليسكنوكم في أمانٍ وعزة .. !! انتبهوا ، تلك هيَ نظرة المسئولين أكبر من نظرتكم ، فانتم تنظرون إلى مَصْلحتكم وهُمْ ينظرونَ بعين الوطنية ..! والتفت هذا المسؤول بناظريه صَوْبي وغرز نظرته في عيني:
    - ما بالَ أباكَ مُزمجراً كالأسد .؟
    لم اُعطيه بلاً كبيراً ضغطتُ على بوزي الاسفل ، وكأنّ بُوزي الاعلى قد خبّأه ، وانتفختْ وجناتيَ ، وبانَ صدري غيضاً ، وكلماتٌ بحّت بها حَلْقي .. التفتُ عن يميني ثم اتبعتها بنظرة أخرى بشمالي .. بيوتنا القديمة اقرب إلى أمكنةٍ صَعْبة في عالمٍ يموج بالتجديد ، لكنّهم ـ حقّاً ، ابعدونا عن مهنتنا التقليدية والحرفية ، فقلتُ بقوة كمنْ يعتدّ بنفسه :
    - ولكنّكم انتم تُجردوننا من مهنتنا . فماذا نأكل بعدها .؟ وكيف نعيش .؟ انبقى نلتقط معادنَ من شوارعكم النظيفة ..؟! لتنظروا إلينا بنظرتكم الدّونيّة .؟( في هذه اللحظة ، مرّ علي شريط بعض من ذوي الحاجة والفاقة ، وفي يده يحمل كيسٌ طُبعت عليها خاتم الشركة ، يتلقط عُلبة فارغة للبيبسي وديو وكوكاكولا ، يدعسها برجله ، كانه ينتقمْ منها ، فتدمع بشيء يسيل من بطنها تُنبئ انها لتوّها قد فرغَ منها احد القائمين على المشروع في شارعهم البحري الجديد .. قلت في نفسي وكأنّ تحاورٍ مثل امامي .. لا خوفٌ عليك يا ـ أحمد ـ إن بدا مصيرك مثل مصيرهُم ، فانت لستَ بافضل ممن سبقك .. فإنْ كان الموت خيرٌ لمنْ سبقك ، فعسى تكون وقفتك هذه في وجه عَربدة المشاريع التي تُقوّض تُراثيات اهلك خير مُحرّضٍ لغيرك ، للوقوف امام هجمتهم الشرسة الخالية من القِيَم الادبية لصون تُراثٍ عميقٍ ومُهم لهذا البد الغني بتراث قلّ ان تجده في بُلدان غيرها ، ففي الاثر نقرأ " ويأكلون التّراث أكلاً لمّا . .!!" إنهم هُم المعنيون حقاً يأكلون ميراث ابيك وجدّك وجدّ من جدّ منهم في بقائه تراثاً قائماً .. فلا عيبَ ابداً ان يدكّون أرضكَ دكّاً بغير مُبالاةٍ ولا إكتراثٍ ، ففي الحياة تجد كثيرٌ مما ابْتُليَ به الانسان في هذا الزّمن الصّعب ، الذي اضحى لا يُفرّق فيه بين الحلال والحرام ، يجمع بينهما بشدّة الرغبة والزيادة ، دون الالتفات إلى مَعيّة الله الذي اكرمه ونعّمه وعزّزه .. ولمْ يزل يدّعي القُنوط ، ولسان حاله وبصريح العبارة ، ربي أهانني وأذلّني ، يتشكّى من ضَيق العيش ويتبرّم لأنه لم يَبْسطها عليه بسطاً بلا تعب ولا كدٍّ ..! فإياك ، إياك، يا أحمد ، ان تكون مِثْلهم ، فأبيك لم يجمع بين الحلال والحرام في آنٍ واحدٍ .فَسِرْ على قِيَمه الادبية التي تحضّ على بقاء فِعْل الرجال ليكونوا على حِرْصٍ كبيرٍ بلا شَرهٍ على من اكرمهم وعزّهم حتى ينعم الجميع بمنفعة السّماء .. رفعت رأسي بعنفوان وكأني اخاطب المسؤول :
    - إخراجنا من قريتنا مُحرّم عليكم لانه فُرضَ إجبارياً ، ولن يرضىَ أحداً عليكم ..! ومن هذا المقام ، أعرب مُعارضتي القائمة على الصّمت ، وأشرتُ بأصبعي نحو أبي ، فأنا قد تعلّمت من ذلك الكثير ، فالصّمت خير والسُّكوت إيمان عميق .. ومن مات يوماً في سبيل ماله وعرضه سيعود ضميره الحيّ إلى أنفسٌ أخرى وستقضّ شكيمتهم مَضاجعكم وسَتُقلق ضمائركم الميّتة حتى لو كان طيفاً مُتخيّلاً ..!
    رحت في غفوةٍ كبيرة وأنا في أحضانها ، وسّدتني بذراعها الأيمن .

    للقصة بقية




    التعديل الأخير تم بواسطة المرتاح ; 14-11-11 الساعة 09:26 AM
    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


  3. #43
    نائب المشرف العام
    الصورة الرمزية الروح
    الحالة : الروح غير متصل
    رقم العضوية : 4058
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : في عالم خيالي
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 9,299
    مقالات المدونة
    3
    التقييم : 195
    Array
    Rep Power : 50
    Array

    ما زالت سلسة الأحداث المأساويه مستمره ..
    والصراعات باقية في مشاهد غير متكافئه ..!!
    بين أصحاب أرض لا حيلة لهم إلا ذكرياتهم و جدران بالية كانت تأويهم..!!
    وبين من يسعون للمصلحة الوطنية ,, بأوامر لا قوة لهم بتغييرها ..!!
    وهناك ,, مفاتيح مفقودة ,, لو وجدناها لفتحت لنا الباب لنرى الصورة بوضوح أكثر ..
    و لنستوعب حجم الشقاء الذي يغطي حروف القصة وملامح أبطالها ..!!

    ...

    دمج الأجزاء الأربعه طفحني ~ لأني اقرأ حروف قرأتها من قبل ,, و أنا كنت كلي شوق للجديد..!!


    أسلوب قصصي متميز ~ أتمنى أن أرى لك مجموعة قصصية ~ فأنا متأكده بأن التجربة ستتكلل بالنجاح بإذن الله ~

    حفظك ربي // لطفـاً لما تدش نزل الجزء الأخير مررررررررره وحده //^_^
    لك الشكر بحجم السماء ~





    التعديل الأخير تم بواسطة الروح ; 13-11-11 الساعة 04:32 PM



  4. #44
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية مخاوي الهم
    الحالة : مخاوي الهم غير متصل
    رقم العضوية : 6239
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    الدولة : مسقط
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 198
    التقييم : 50
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    متابع بشوق




    حتى وانا اتخيل حشمتك لان قلبي لايزال
    يكرر اسمك داخل اعماقي بنبضه لاسهيت




  5. #45
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الروح مشاهدة المشاركة
    ما زالت سلسة الأحداث المأساويه مستمره ..
    والصراعات باقية في مشاهد غير متكافئه ..!!
    بين أصحاب أرض لا حيلة لهم إلا ذكرياتهم و جدران بالية كانت تأويهم..!!
    وبين من يسعون للمصلحة الوطنية ,, بأوامر لا قوة لهم بتغييرها ..!!
    وهناك ,, مفاتيح مفقودة ,, لو وجدناها لفتحت لنا الباب لنرى الصورة بوضوح أكثر ..
    و لنستوعب حجم الشقاء الذي يغطي حروف القصة وملامح أبطالها ..!!
    ...

    دمج الأجزاء الأربعه طفحني ~ لأني اقرأ حروف قرأتها من قبل ,, و أنا كنت كلي شوق للجديد..!!


    أسلوب قصصي متميز ~ أتمنى أن أرى لك مجموعة قصصية ~ فأنا متأكده بأن التجربة ستتكلل بالنجاح بإذن الله ~

    حفظك ربي // لطفـاً لما تدش نزل الجزء الأخير مررررررررره وحده //^_^
    لك الشكر بحجم السماء ~

    هلا اختي الكريمة الروح .
    1- دعينا اشكرك فواجب الشكر الجزيل مثقدّر عندي .. فقراءتك ـُنبئني حقاً انني أمام قارئة نهمة ، وقارئة مُتميزة حاذقة حتى في ادق تفاصيل قادمة ، تستوحي مشاعر الشخصيات كما لو انها تعيش في اجزائها المتشاكلة ... أحسستُ وانا اعيد الجزء الاخير معكِ ، لا يجب ان يُعلن الموتَ لانه يجرني إلى مظنة السوء وفي تقديري ان احمد مناضل ويجب ان يُعلن الحياة برمّتها وهذا ما سوف اعدّله إن شاء الله في الجزء الاعلى ..!!
    2- اشكرك على ثقتك بكتاباتي ، قبل الوثوق بالكاتب .. فانا لستُ إلا أسجل محاورها وهي التي تحكي عن نفسها بنفسها دون تدخل الكاتب فيها . ( هذا ظني ) .
    3- سُررتُ جداً وهناك من يُعاضدني ليرى النور في كتابات قادمة ، يُشجعني ويأخذ بيدي إلى طريق النور .. وهذه لفتة تُسجل لكِ ، فانت قارئة نهمة .
    4- لكني اراكِ مُستعجلة جداً ، ونحن لم نمسك بعد الخيط الصحيح للقصة ، لا زُلنا في بداية طريقها ، وعلى قوة عناصر تشويقها ، لا تزال النهاية لها خُطوطاً عريضة ، فلماذا تستعجليني .؟؟
    5- لقد قمت بإعادة الاجزاء ، ليقرأ القاري بنهم .. فلو قمت بتقسيطها فسوف يُصاب بالملل والسأم ، فانا ادرك يقيناً ان الذي يكتبون لي لا يقرؤون ويكتفون بالشكر وبكلمات المتابعة وهو لا يعرف عن القصة شيئاً .. وانا دائماً اقول للاخوة القُرّاء .. حتى لو بالعامية الدارجة قُل رأيك وماذا قرأت .. وماذا تستنتج .. وأنا افهم لك .؟؟ ولكنهم يستحون ، ويخجلون . فكيف يتعلمون .؟ أولستُ انا كنت مثلهم يوماً .؟ وهذه مُشكلة ، لاني اريد ان استشف منهم ، فلربما اجد ملاذاً ، أتعرف من خلال ما اكتب على مكامن ضعف او قوة .؟! ولكن لا فائدة من الكلام .؟!
    6- سأنزل لك الجزء الرابع ، وسوف اقلل هذه المرة من بثها مرة واحدة ، حتى تكون القراءة مُترابطة مع القاري الجديد .. فإن كنتِ انت تقولين طفحتي .. فإن متوقع 99.99 ان الذين يسجلون حضورهم لا يقرؤون او هُم كالاطرش في الزفّة .!!!
    اخيراً اُجدد محبتي إلى ثيّمات عباراتك الجميلة .. وأكرّس جهدي للتواصل الادبي معك .. لافهم المزيد من هذه المتابعة القيّمة ، التي بثثتيها من خلال جُهد تُشكرين عليه .. والله اسأله ان يُكرمك بمزيد من العلم .. !!
    والسلام عليكم




    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


  6. #46
    نائب المشرف العام
    الصورة الرمزية الروح
    الحالة : الروح غير متصل
    رقم العضوية : 4058
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : في عالم خيالي
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 9,299
    مقالات المدونة
    3
    التقييم : 195
    Array
    Rep Power : 50
    Array

    أمممم طال الوقت ~ وشمس النهاية لم نشاهد لها شعاع ..!!

    يعني حفظك ربي واسعدك سيدي الكريم ~ ننتظر قصتك ~ فقد بتنا نعاني من نقص حاد في الإنتاجات الأدبية ..!!

    ولا تهتم لقلة الردود ~ فهناك دائما عشاق للأدب ~ لكنهم يعشقون الصمت ..!!





    التعديل الأخير تم بواسطة الروح ; 20-11-11 الساعة 12:49 PM



  7. #47
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الروح مشاهدة المشاركة
    أمممم طال الوقت ~ وشمس النهاية لم نشاهد لها شعاع ..!!

    يعني حفظك ربي واسعدك سيدي الكريم ~ ننتظر قصتك ~ فقد بتنا نعاني من نقص حاد في الإنتاجات الأدبية ..!!

    ولا تهتم لقلة الردود ~ فهناك دائما عشاق للأدب ~ لكنهم يعشقون الصمت ..!!

    ههههههههههههههههههه
    انزين ان شاء الله ما يهمك .. من العين للعين .. والسموحة .




    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


  8. #48
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المرتاح مشاهدة المشاركة

    الجزء الرابع بالاضافة إلى الاجزاء 1/2/3 فاستمتعوا بالقراءة .. وانا منتظركم .. إذا وجدتم شيئاً احتاجه إلى مساعدتكم .. فإنه ليس عيباً ولا ينتقص من ثقافتكم او معرفتكم .. فتفضلوا مع الشكر ..


    _______

    دفعت بعربتي، وأخذتُ أجرّها، وأجرجرها، كأني أُجرجر وراءها خيبة عُمر امتدّت إليه أُمنيات ضحلة ، أُمنيات لا تَتحسّن بل تزداد سُوءً بعد سُوء.. أتردد على سُوق المدينة ، أحمل أكياس وأشياء أخرى ، أرميها في القمامة .. أحملها من دكاكين ومحلات الخضار مُقابل ثمن بخس ، مائة بيسة ، عن كل حِمْلٍ ثقيل ، يكسر ظهري ويُقوّس عموده الفقري .. كانت القمامة أو حاوية المزابل القذرة ، تبعد عن السوق ، بمقدار 50 متر أو يزيد .. في كل صباح باكرٍ، أنظر إلى الحاوية الكبيرة، حاوية جمع القاذورات والأوساخ والقمامة العفنة، أنها مصدر رزقي الوحيد، وأنا أسعى جاهداً لأكون صديقاً قذراً مِثْلها، بعد أن صكّت كُل الأعمال في وجهي .. وحين أتساءل ، لماذا .؟ لا إجابة شافية، غير هذه.. رُبما قدركَ المنحوس أودَى بكَ أن تكون هذه الأمكنة التي لجأتَ إليها ، كنايةً تُذكّرك بأن الحياة لحظات مدّ وجزْر وصُعود ونُزول ، لا تتوقف عند حدّ مُعيّن ، ورُبما انكَ أول من استقبلتَ الحياة بوجهك ورُبّما تذكرك بأول رضْعةٍ من صدْر أمكَ ،تُذكّرك بأول جُرعةٍ من ثدْيها فانفطرتَ عليها ، لا اعرف مُجمل هذه الكنايات ، لكنّي أكاد أُجزم لا يقينَ فيه ، بأنّ أمّك قد ولّتْ بوجهكَ ناحية القمامة لحظة الولادة العَسيرة ، أو تكون قد نستْ أو تناستْ لحظتها بأن تُغيّر وجهتكَ شطراً آخر غير شطر القمامة..! رُبما ذاك سبب رئيس جعلك تُعظّم المزابل وتتعلّق بحاويات القمامة .. ترددتُ كثيراً كيف أردّ على محاور خفيّ ، لا أعرف كنهه .. ثم قلت بعد إلحاح داخلي : أمي ، لا اعتقد ذلك .. أعقبتُها بسكتة ، ثمّ أردفتُ ، إنني مُتيقنٌ أن أمي تُيمّم وجهها شطر القُبلة وتُصلي بصوت خافت وتفيض عينها بالدموع، كنت أرى ذلك وأنا في حُضنها، ارضع من صدْرها وأمتصّ حَلمتها بقوة مجنونة.. قد يكون الأمر مُثار علاقة خاصة غير تلك ، إذ كان بيتنا قُبالة مزبلة المدينة .. فرد الصوت قبل أن أُكَمّل .. رُبما أنت مُحقاً في هذه ..! وضعتُ يدي على وجهي احكّه بسبابتي كمن ينبش في شيء ..! لا زلتُ أتذكّر ذاكَ اليومَ ، يومَ أنْ رفض المَيْسورين وكِبَار رجال المدينة الاقتراب من هذا المكان ، ظنّا منهم ويقيناً من أعوانهم انه لا يصلح إلا لأمثالنا مكاناً نختبئ فيه ويضمّنا في أُسرةٍ محسوبة في تعداد وطنيتنا الكبيرة وهذه الأمكنة الجديدة هيَ أقرب إلى واقعنا المُعاش ، فالنّجَابةَ في فلسفة كِبَار الرّجال هيَ فضلٌ أُوتوا بها دون سِوَاهم .. قال الصوت وكأنه يوقضني من غفوة تفكيرٍ مُزرٍ : كُنْ انجدَ الناس ركّابٌ لِصَعابها ، بفكرٍ يرتقي إلى أَنْجدها ، سَامٍ لمعاليها ، إني أعلم يقيناً انكَ من مناجيبَ الرجال ذي نباهةٍ ونجابةٍ ، فاضلٌ على أترابكَ ، ونباتُك حسناً ، لكن اعلم حقاً أن الشّعر لا يأتي إلا من جودة شاعرية خلاّقة ..!
    سمعتُ دربكة وطرق خُطواتٍ ، انظر في النّخلة التي توسطتْ طريقٌ مُؤدياً إلى قريتنا الصغيرة وهي تتمايل كأنها تلهب على وجهي ، تُخفّف حرارة الغضب المُتصاعدة إلى قمّة راسي .. أَمْعن النظر جيداً ، أُشخّصها ، أتفحّص النّحْلة وهي ترقص على شجرةٍ قُدّام بيتنا ، تتقافز على بتلات زهرتها.. كأنّها تُمنّيني بأكلةٍ شهيّة ، وتُؤكد بِرَقْصها وتقافزها على بِتْلة زهرتها بأنْ لا أعجل ، وكأني أحادثها .. أرغمَ كُل هذه العقبات الكَأْداء تُريديني أنْ لا أَعْجل ، فإنْ لم أعجل اليومَ فمتى أتعجّل وتأخذني السرعة إلى حقّي .؟ من سوف يستعجلني ويستحثّني إلى عُجالة تُرضيني .؟ متى سَيُرفرف جناحيّ فوق عَقباتها .؟! بكيتُ حين خنقتني الدّْمعة وخرجت كَأْدَاءْ ، في ضيقٍ وغيض ، عَبّ صَدري بتنفس عميقٍ ، أخرجتُ زفرتها مرة واحدة . ثم صمتُّ ولم أُكمّل .. وكأنّ ذاك الصوت يؤكد لي ، إنْ كُنت تُريد عاجلةَ أمرك عجّلنا لك فيها كيف تشاء وتُريد .. كانت سرعة الصوت كطوقٌ يخترق مَسمعي ، تنتفض طبلة أذني وتتمزق غشاء باطنها ، حككتُ عُثنونَ شُعيراتٍ نبتتْ تحت ذقني ، تلك عادة حفظتها مُنذ صِغري ، قِيْلَ عنها ، أنها كإشارة مُوحية إلى تعثّر حظّي .. شيء في داخلي يستحثّني لأندفع بقولٍ غير مُكترثٍ لعواقبه ، سأُلقيه على عواهنه ولو بأُسلوبٍ مُبالغ فيه ..! أحسستُ بقلبي يتقلّص ، تمتمتُ بتسبيح حفظتُ بعض عباراته عن ظهْر قلب ، دعكتُ بأصابعي مِسْباحٌ فتحركتا فُرضتا أصبعي وأنا أَدْعك حَبّات المَسْبحة بين السبّابة والإبهام ، وتمتمت بصوتٍ لا تسمعه إلا نفسي .. إنّهُم تَناثَوْا بينهم وأشاعوا أخبارهم ، أنْ لا قِيمة لنا وما صَلْفَ مُطالباتنا إلاّ كنُثار بقبقةٍ لا وَزْنَ لها غير نثْوَ سَوالفَ نبثّها بلا قِيْمةَ ولا مَعْنى ، أشبهَ بشجرة لا لِحَاء على قِشْرتها ..! كانَ هذا ذِكْرىَ من ماضٍ قاسٍ ، توقفت بُرهة .. ذهب الصوت ثمّ اختفى كُلّياً وبَقِيت لوحدي .. أتفكّر في كُل شيء ، يمر شريط ذكرياته أمام عيني ، بوضوح لا يقبل إنكاره .. عندها بدت قناعتي بالاستسلام إلى إيمانٍ يدفعني إلى تغيير سُلوكٍ وطنيٍ لا يحمل عدائية .. بدت خطوات الانتقال الجديد تتعثّر ، ثُمّ تتلاشى ، تُمزقني جِرَاحات الغصصَ المكلوم ، وبدا غُموض يسكنني . أتساءل ، إلى هذا الحَد تقفَ مصاعب الحياة نداً ، تُظهر كراهيتها على عائلتي .. بقيتُ واجماً أستعجمَ ما خَفيَ واسْتَبْهم عليّ .. مكلوماً بجراحات تُمزّق آثار وطنيّة سنين الاعتزاز المكاني والاعتداد بالنفس .. تلكم السنون رغْم حَمْلها شقاوة أيام مُرّة ، ذَكَرها لي أبي مرات كثيرةٍ وأنا ما زُلت صغيراً ، غضاً ، نظراً ، أمسك بعَجْوة التّمر ، أعصرها في راحة يدي ، ثُمّ ألْقيها في فمي ، مخافة أن يراها أبي ، فينتهرني ، لان أبي كان يُؤدّبني حتى في طريقة جلسة الأكل وآدابها ، تلك هيَ بعضاً من مناقبَ قِيم التأدّب يوم ذاك ، إذْ كانت تُعتبر من قوامة الصّبي ، ومُفردة رُجولية مُرتّبة على طريقة تربية أُسرية تُحافظ على مكانتها في بيئتها المكانية ، لا شيء أكثر مِمّا يُعرف في اعتداد التربية إلا أدب الصبيّ ، فينشأ على اعتدال واستقامة كما يتساوى الليل والنهار .. فإنْ وجد سواد ليالٍ دهمتْ أحدهم قامَ واستنفر ولا يدع حِمْله إلا وقد انزاح ما كان من ظُلْمةٍ على غيره ، وإن وجد نهاراً يسطع في بيئة ما ، حَمَد وشكر وهنّأ غيره عليها ، إلا أن الجراحات بدتْ في تزايدٍ كُلّما تشاكَل الناس في تعدٍّ ملحوظ على مُقدّراتهم ، أخفاها أعداؤهم المُتربّصين بغيض وحقد بغيضٍ منذ زمنٍ بعيد يتلونه وتلهج ألسنتهم بحروفها ، لكنهم يؤكدون بفذلكة إنشاءات التعابير الورقيّة ، قلّ فِعْلها وكثُر دسّها قريباً وبعيداً ، وصار الرجال هُم أعداء الرجال بأنفسهم ، فتداخلتْ عداوة بعضهم في حِقْد غيرهم ، فهشّمتهم ومزّقتهم تمزيقاً .. ومنْ يومئذٍ وأبي يُحمّلني أثقالها إلى أيامئذ وأنا أحمل أثقال وِزْر الهَمّ والغصص حتّى قضّتْ مَضْجعي ، أثقلتني سِنينها وأيامها ، ساعاتها ودقائقها ، بكل ما تحمله من وزْر استثنائي لهذه العائلة المَكلومة بغصص الذلّ والمَهانة .. المقرونة بطرّفات بيئتها المكانية المُقرفة ، وتُرّهات شراهة حقارة الزمن البائس ، وحدنا من استثنى قاعدة التوافق مع خط الزمن الحسنَ ، ذاك المتاع الزائف الذي يعيشه الآخرين ويتلذذون بمذاقه ..! وقفتُ وقفة مُتشائمٍ يائسٍ وقد صُعقت بذكريات مَشئومة تطوف كُلّ حينٍ علىَ مُخيلتي ، وَقْعُها كالصاعقة على نفسي الضعيفة .. ضللتُ أبحث في فَهْمها ، عن وميضٍ أمل ، عن مَخرجٍ يَلوح لي ولو من بعيد ، ولا يلوح .. تبتعد الأُمنيات الحالمة بلياليها العِجَاف ، وتمتص نهاراتها ببياض لا ينقش على جُدرانها بقاءً .. غير هذا البقاء الذي أنا عليه من الأماني العِجاف ، أماني من بدايتها حقيرة ، ذات شُؤمٌ ، فظّةٌ ، غليظة ، أسقمتني ، وأثقلتني ، حتى صار حالي استثنائي بعربانةٍ لا أجدُ غيرها .. تهزّني الأماني السّقيمة ، وترتجف ذكرياتي ، تتساقط دقائق أيامَ انتظاري .. وأحلامي تتهشّم ، تتلاشى أمانيها ، تبدّدت مآربها الَمرْجوّة ، حينَ دوتْ صَواعقها المَرْعوبة بذكريات منحوسة ، أقرفتني طُوال سُنون الانتظار المَشحون بزخمٍ لم تَعْتد به .. رغم ان شَعري الأبيض ، ينتشر في أماكن شتّى مُظلمة ، خفيتْ عن كثير واندسّتْ عن كل عين إلا عن عيني .. أخفيته كصمتي ، فاستحضرت التأزّم التالي .. ما بال ذلك الشّيب يشتعل برأسي كأنه عازم على قهري ، أيريد قَتْلني أم بيّت نيّته ليقتل كُل ذرّة طَيّبةٍ من جمالي الآدمي ، ذلكم الجمال الذي أكرمني به ربي ، ليزعزعَ كُل علاقة مُتصلة بي ، فلا أجد تناغماً يكفل لي عطاءً غير مجذوذ ، إلا حَنْق الشيب الذي يُطوقني ، أتراهُ يَحسبني متاعاً في السوق ، أم انتهتْ صلاحية علاقة سَواده بي ..؟! أماَ آنَ الأوان لتبيضه أم أنّ اشتعال الشّيْب في رأسي من ثبات الوتدِ على شعُيراتي غير الشائبة وهل هذا هو عزْمٍ أكيدٍ من بقايا نغصٍ قُدّرتْ لعائلتي .؟ فكيف ألحقُ بها وهيَ لا تجدَ ما يُمنّيها .؟ وهل الشّيْب المُشتعل به رأسي يُبْعدها عن عزيمتها الجادّة ، فتحنثْ عن قسمَها الذي أمدّته بيمينها لِتُعاهدني عليه حتى الساعة الأكيدة .. بعيداً عن عزاء الشيب الذي تغلغلَ في شُعيرات إبْطي ببياضٍ يُلاحقني ، قبل أن يَقطع عَسَبُه ويشقّ عليّ النّسْل فلا تنال شيء من مُبتغاها ، كما تُمنيها أنوثتها وحيث تمنّيات كُل اُنثى .. تلكم الأماني غير منزوعة الألفة ببياض شعرٍ يأكلني بسُحنته المُكتظة بسوادٍ حيّ قبل بِضْع سِنين .. وتساءلتُ : أهيَ بادية على فِعلٍ ما .. إذا ولّتْ صلاحيتي ـ ولو كان اعتقاداً ـ ؟ ألا يحق لها أن تهنأ بما تُمنّيه لنفسها من حياةٍ أُمَتّعها بها وإن بانَ لها ظاهرٍ بياضٍ في رأسي .. ضحكتُ وأنا أحدث نفسي .. بياض الشّيْب غِطاء طبيعي خيرٌ من غطاءٍ قائمٍ بسوادٍ قابلٍ للزوال ، وكذا هو الحال إذا ما اقْتُلعت نَبْتة بياض الشيْب من جذورها ، ألا ترينه ، فيه شيء من فلتاتٍ مُعيبة..؟ أغمضتُ عيني ، سقطتْ دمعة .. وَتَلَوْت حُروف كتبتها بيدي وخَطّها قلمي .. أيحقّ لتلك الأنثى أن تُمْلي شُروطها إلى مودّة تسكنها ، كأنْ يخلو هذا الشيب الذي اكتظّ بشراسته على كل أنحاء جسمي الظاهرة والخفيّة ، فأفقدتني شرعية مُبتغاها .. أيحقّ لها أن تدّعي بفضاءٍ لا أمَنّيها بها .؟ ألا تخلو هذه الأمنيات من التّعقل ..؟! لوحت راسي أسفاً ، ما أَعْجَلكِ من أنثى ..؟ نظرتُ إلى شُعيرات صدري ، شنّكتُ حاجبي ، فخارتْ كلماتي وانكفأتُ على حالي وهتفتُ بصوتٍ واهٍ .. هل الشّعيرات الشائبة سبباً رئيساً لانتهاء صلاحية فُحولتي .؟ ما ذنبي إن أكلني الشّيب في غير موعده الذهبي ..؟! وهل تُعاقبني مودّتها قبل أن تسكن إليها نفسي ..؟ أليس كُل نفس رطبةٍ راغبة إلى شيء يَسْكنها.. !؟
    كان ذلك الهذيان عبارة عن صخْب عالٍ جداً ، زادته قسوة الأيام مرارةً حتى صار مَثار حديثٍ يختلج إلى ذاتي ، تنشره عبر مونولوج بَرْمَجتها اللوغورتمية يوم انهجستُ عن أمرها وارتددتُ عن فَهْمها ، نظراً لما لأيامئذٍ من شدائد ومِحَنٍ ، وودتُ لو لمْ يَخْتمر عجينها إلى الأبد ، فَصَخْبها عارمٍ دفينٍ في نفسي ، وكثيراً ما تختلط أصواتها بلا هَجْعةٍ أُمَنّي بها نفسي وحين ألوذ إلى هَجْعِها تخدعني فأستسلم إلى نهار مليء بصخب عالٍ يدق ناقوس خطره في نفسي ، ورغم ذلك فأنا استمسك بِعُروة الأمل ليكون موثقَ ليلها أقرب وأقرب .. بهكذا أملٍ وهاجسٍ غير بعيد ، بدوتُ كمتشائم ومتفائل في بِضْع هفواتٍ قاتمة ولحظاتٍ سعيدة مدفوعة بأملٍ دافئٍ أو شُؤمٍ بائس .. كُل ذلك يحدث ، حين أَفْقُد هدوء رُجولتي في ليلي البغيض ، بهكذا مُعالجة فظّة ولذيذة ، أحاول اجمع بَعْضي إلى بَعْضه ..! وأعيد مُحاولتها ، فأتناغم مع مُختلفها ، ألمس في لمْحةٍ ملامح شَبقها - حيناً - أو اختلس نظرةٍ غِرّةٍ في حين آخر ، أنشدَ ضِلّ حياةٍ مَسْكونة بهاجس الوُد والسّكن المُطمئن ..!؟ حديث مكتوم في داخلي لم أُفْضي به إلى غيري .. ليبقىَ سُؤالي قائماً ، تُرى كيف انزرعَ بياض الشّيْب في رأسي وإبْطي وأنا ما زلتُ غِراً ، لم أتجاوز الثلاثين من حياتي التعيسة .؟ نكّستُ رأسي ، وإذا بصدري يشتعل بياضاً ، فاهتزّ جسدي خوفاً .. قلقتُ كثيراً وترددت بتصويب نظرتي مرة أخرى .. كي لا ازداد خوفاً أو سُوءاً فتتبدّل حياتي إلى أكثر تعاسة من ذي قبل .! وذهبتُ إلى حيث أيام أمي التي لم تألو جُهداً أو تعبٍ أو خِدْمة إلا وفَعَلتها لتبقى كرامتنا محفوظة ، ولكنّ العُمر تقدّم بها ، كأنه يَرقبها ، يتلصّص عليها ، كيْ تبقى التعاسة بوابة الشُّؤْمٍ التي نَكْرهُها .. أتذكّر بقوة ساعة قِيَامها بالبحث عن مأوى لنا يَحمينا من برد شتاء قارس ، فنعيش كباقي الوجوه الآدمية .. تمرّ السنين طويلة ومُتهالكة ، تتقلّبُ بأوجاعها ومَصائبها العصيّة ، استبدلتْ أُمي بيتنا ذات العِمارة الطينية المُتشرذمة ، كأسنان ذاك العجوزٍ الذي كان يجلس كل صباح ومساء قُدّام بيتنا ، فنتقاسم معه الطعام والشراب .. وحين كبرتُ وصِرْت شاباً يُعْتد به ، علمتُ انه أبي .. فقدَ ذاكرته أثر صَدمته بقيام جرّافة كبيرة ، هشّمت بيته الذي ضمِنَ أنه أماناً على حياتنا ، بحجة المصلحة الوطنيّة .. لكن أبي وكما تروي أمي : رفض عبدالله كل الحُجج رفضاً قاطعاً وأبىَ النزول إلى رأي الذين حاجّوه بإقامة مشروعهم ، مُؤكدين عزْمهم على تنازلهِ إجبارياً إن لم يكن اختيارياً ، فما يقومون به هو من اجل المصلحة الوطنية فقط .. ولكنّ أباك تمسّك برأيه واعتبرها حُجّةً باهتة ، وامتنع بقوة عن تنازله ولو بمقدار فرضة أصْبع ، مُتحدّياً الجرّافات التي تسحق كل شيء حتى لو حوّلته إلى فضاء خالٍ من أي نبتة على الرمال ..! كان إصراره قوياً هو والذين معه ، إذْ كانتْ وقفتهم تلك ، شكّلتْ مُنعطفاً خطيراً حين وجدوا عزم الرجال مُؤكّدين على التحدّي الكبير ، وكان ابوك يومذاك في مقدمة الرجال يهتف بأعلى صوت ، لا .. للمشروع .. فليسقط القائمون عليه ..!! وعلى أثر ذلك التحدّي أُصيب أباكَ بنوبةٍ ضغطٍ عالية وأزمةٍ نفسية عارمة ، اهتزّ لها جسده وارتعش ارتعاشةٍ بغيضةٍ كانتْ شديدة على جسده الضعيف .. فأخذ يتفوّه كما لو كان قد فَقَدَ عزمه وثباته ، فصاح قبل أنْ تُغيّبه فُجَاءة هذا التحدّي إلى حيث كانْ ..! " لنْ نسمح لأحدٍ أياً كانْ ، بِمُصادرة مَراعينا ومحوَ أمكنتنا وتفتيت بُنيتها ، فتكون كأنّها لمْ تكنْ من قبْل ، ولن نرضى بطَمْس مَوْروث أجدادنا وانتزاع حق آبائنا قهراً وإذلالاً ، وإقصاء أحفادنا بعيداً ، كيْ لا يَعْلموا شيئاً بعد أنْ عَلِمْنا كُلّ شيء.!! توقف بُرهة ثم واصل " لنْ نقبلَ بحُجج واهية ، فجّة كهذه ، إنّها حُججٍ أقربَ بهاتةً إلى عُش الغُراب ..! "قالتْ عمّتي خديجة التي تكبُر أبي سناً ، وكان تجلس بقرب أمي تحتسي القهوة وفي يدها شيء من تمرةٍ عالجتها بيدها حتى اصفرّت ، تفركها مرة ، وتدعكها مرة أخرى ، تُقلّبها بين أصابعها الثلاثة الإبهام والسبّابة والخُنصر ، وحينَ نهضتْ أمي من جلستها وكأنّها تفسح مجالاً أكبر لعمّتي خديجة لترسّخ في ذهني علاقة أبي برفضه المشروع على غير ما أشيع عنه ، وخاصة بعد نوبته تلك التي لم تُفلته إلى أن وُرِيَ جسده الثّرى وصار نَسْياً مَنْسياً ، انه كان يُحب الظهور من باب " خالفْ تُعرف " .
    أحنتْ عمّتي رأسها هامسة ، وقد شدّتني من كتفي ، إفْهم أمك جيداً ، فقد آثرت كُل شيء من أجلك ولم تَبخل ، بذلتْ كُلّ غالٍ ونفيس لتبقى .. كانتْ تدعو لك أن يَجعلك الله في نِعْمة وفَضلٍ وفي مَسرّة الحال وعفّة النّفس وفي عِلْمٍ ومَعرفةٍ مُتواصلة غير مُنقطعة ، يكفيكَ دُعاءها قبل ان تُقَدّم لك الحياة وتُهديك إياها ، استرخصتْ رُوحها وسُكونها ، كما لو كان ذلك تقعيداً من أيامها الباقية .. ولهذا السبب خُذ بنصيحتي ولا تَعْجل ، فإياك وتجعل عينيها تلتقي في عينيك ، فإن التقتا ، فاخفضْهما حالاً ، ولا تَهْجس أمامها ، كُن مُستمعاً ومُنْصتاً .. نظرتُ إلى عمتي خديجة التي لا تزال تحتفظ بجمالها الفِطْري رغم تقدّمها في السن ، وأنا اُشنّك حاجبيْ وزوايا شفتيّ ترصّ على بعضها .. وبصوت خافضٍ على غير عادة صَوتي الجهوري :
    - طيب كلميني عن أبي والمال والجرافات والبساتين الجميلة وأهل القرية ، وأسباب تحدّيهم ورفض أبي القاطع إلى الحالة التي انتابته يومئذٍ وما قيل عنه .. ؟! ابتسمتْ ، غمغمت بكلمات لا افهمها .. قطّبتْ وعبستْ ، زوتْ عينيها كأنها انقبضتْ ، سقطتْ دمعة فأخفتها .. أحسستُ بإشفاقٍ فُجائي ناحيتها ، لا اعرف سببه ، لكنها طَمْأنتني ، لا تقلق ، أمر أباكَ ذهب وأمرك آتٍ .. لا تسمع لقولهم ، فأمّك يوم ذاك وحين كانت على أشدّها كانتْ تُحب النساء مُجالستها ومُحادثتها ، لم يُنسب إليها شيء مِمّا سمعت ، وأنا أُوصيكَ ، لا تكن كـ الزّاغْ ، وجهه اسود مُغْبَرّ وبقيّة جسمه مُتلوّن ببياض .. تذكرت هُنا بياض الشّيب في صدري وإبطي وبقية جسدي .. سألتها ما الزّاغ يا عمتي ، ضحكتْ ، الزّاغ ـ يا أحمد ـ غُرابُ كثيرٌ ما يأتي على زراعتنا ويتلف شيء من ثمرتها ، وانفرجت ابتسامتها ، إنْ لم يكن يُخرّب أحسنها ..! بعضهم يُؤكد انه طائرٌ حاسد .. لكن أباك قال ، انه طائر مُهاجر ، لا يستوطن بُلداننا في اغلب الظنّ ، سكتتْ ثمّ أردفت ، ما يَهَمّني هُنا ، هو أن تكون قريباً من أمّك ، أُمّك كانتْ أولّ من واستْ أبيك بِنَهْنِهةَ دمعةٍ سقطتْ من مُقلتيها ، فأنشأتْ بدمعتها مكانةً في قلبها لأبيك . أُمّك أخفتْها عن عين أبيك حتى مات ولكنّي لم استطع أنْ أُخفيها عنك ، إنها الأمانة يا ـ أحمد ـ داعبتني بوضع راحة يدها وأدخلتها في بطن يدي ، ضغطتْ على أصابعي فأحدثت فرقعة ، حَوّلتُ ناظري صَوْبها وابتسمت بوُدٍّ عائلي .. ثم أكملتْ ، كان أباكَ مُذْ صِغرهِ دقيق المُلاحظة ، شديد الحَدس ، حادّ النظْرة .. وكانت أُمّك كتوأم روحيّ له ، فَهِما بعضهما ، كأنّما ولدتهما أماً واحدة .. إذْ كانَ هو بطبيعته العاطفية يميل إليها ويجنح بودّه لها ويُرغبها ، وهيَ بحبها تعشقه وتتغنّى به ، كطائر يُحلّق بجناحيه غير مَهيض، يُرفرف بسعادة ، لم يُكدرهما شيء منذ أن تزوجا ، ولم يَنجبا غيرك في الحياة .. أنت يا أحمد وحيدهما ، لو كُنت تعلم يوم ذاك لعرفتَ كيفَ أخذتْ تُسلّيه تعزّياً ..؟ كانت نظراتهما تُؤكد عزمها على المُضي قُدماً مهما عظمَ الامر وغلظ ، لنْ يصيرا اضداد بعض لا في فكرتهما ولا في توجّهاتهما ، يجتمعا على نبْضٍ واحدٍ، أتذكّر يوم قبض عبدالله بيد أمّك عزّة وقال وهو في أمر واقعته العصيبة ، ونبضات قلبه آخذة إلى الهبوط ، إن أردتّ إسعافي فاجعليني قُدّام تلك الجرّافات .. بكت عمّتي خديجة .. وأردفتْ ، كانت يومها مُفردة الجرّافات لا تَسْعفها غير اللحظات القاسية .؟ لحظات اضطرّتنا جميعاً إلى ما هو اشدّ قسوة وأَلجْأتنا إلى أن نقف وقفةَ الضّرير الاحوج ، ويا للأسف لحقَ بنا أذاها ومكروهها .. يوم أنْ ضرسَ الزّمن واشتدّ علينا الخطْبَ بقوّة ضَراسته وبأسَ شَراسته .؟! و كان شأن أمك وحالها ساعتئذٍ حرنةً مأخوذة بتدافع الجرّافات التي تُهشّم البيت والبُستان ذي الثمار النّظرة ، وحُجتهم المأفونة انه اُقيم في وقتٍ كانتْ أعين المصلحة الوطنية نائمة وها هي الآن قد استيقظتْ ورأت ما لم تره عين ولكنه خطرَ على قلب القائمون على المشروع .. ومن لحظتها تبدّلتْ أحوال أخي عبدالله ، ولم يستطع توقيف العمل القائم على تهشيم بيته وتمنى ما لم يتمنّاه أحدٌ في نفسه .. تمنى لو يأتيه الموت قبل ان يرى هذه القسوة والتسلّط الوقح ، إذا لا إنسانية يُخشى عليها من قوة سُلطوية تذلّ من ترتبط بهم مكانياً وتراهُم لا يستحقون حتى الاهتمام ، فالنملة عند سليمان الحكيم كان لها مكانة فأعطته عزماً وقوة ، وحُسن تدبير .. ولكنّ المسئولين يرون تهشيم بيت عبدالله ، لأنه ليس صَرحاً مُمَرّداً ولا بئر بترول ، ولا خزائن تحته ولا كنوز فوقه ، غير بُستانٍ يأكل منه ، وزريبة غنم يعتاش عليها وبيتٌ يضمّه هو وأهله ، فهلأيحقّ له الوقوف أمام قوة المصالح الوطنية .. سقطت دمعة عمتي خديجة ، وهي تسرد حديثها ، سقط بيت عبدالله أمام مرأى الأعين حُطاماً ، إذْ كان في نظر القائمون على المصلحة الوطنية ، أنه بيت أقيم بطريقة لم تكن مُستقيمة يومذاك غير قانونية رغم شرعيتها الدينية ، فالبيت قد مرت عليه أكثر من عقدين من الزمن ، ولكنها اليوم أضحت ممتلكات خارجة عن القانون ، لا وجه حق في قيامها من وجهة نظر المصلحة الوطنية ، ولم يكتفوا بإزالة البيت والبستان ومزرعة صغيرة اتخذها أبوك زريبة للأغنام ، فقد أصدرتْ الجهات المعنية أمراً مُلزماً لجميع ساكني هذه القرية الضارب أطنابها في أعماق الزمن الغابرة ، بتوقيف وسجن كل من يلحق الأذى أو يُعطّل عاملي المصلحة الوطنية حتى ولو كان بحجة شرعية ، فلا شيء فوق القانون .!! والحقوق مكفولة بعد التنفيذ .. يكفلها القانون فقط لا غير ..!! لكن أخي عارض هذا الرأي ومعه رجالٌ ، قاموا معه ، وظنوا أن إخراجهم من ديارهم مذلّة لهم ، وفي الأثر " من يمت دون ماله أو عِرْضه فهو شهيد .." وأبوك يا أحمد شهيداً في الجنة ، لأنه حضيَ بالاثنين معاً ومات دونهما ..!! فضلاً عن أنّ الجراّفات دأبتْ على ترويع وإزعاج مواطني هذه الوطنية المُهشمة بقوةٍ لا غالبَ لها غير القوة الشرعية التي يتمسّك بها الرجال ويعتدّون بها .. وقفتْ عمتي ، وشرعتْ كالخطيب بين المصلين .. لو كان ربّي يأخذهم على أخطائهم لما بقيَ أحد منهم في الحال ولَفِنيَ الناس ولم يبقى احد على البسيطة ولكن يُؤخّر ذلك عنده في كتاب ، لتُجزى كُلّ نفسٍ بما عملت ويُقضى بين المُتخاصمين ، يوم ذاك يوماً أغرّ لا قوة ولا سُلطة أقوى من الحق المُبين ، يوم ينظرون فيما قالوا وما عملوا وما كانوا يفعلون ، اليومَ فقط تقول النّفس الأمارة بالسُّوء ، ربي ارجعون ، أعمل صالحاً ، وأغيّر نظرتي ، لعلّي أكون راشدة لنفسي وصالحة لغيري ، ولكن القوة الصادحة في هذا اليوم ، لا ظُلْم اليوم ، فأين هُم المُعْتبرون حقاً .. !! بكتْ عمتي ، وغمغمت ..ثم أردفتْ : أنهم يظنون بفعْلهم أنّهم يُجانبون الصّواب ويُحسنون صُنْعاً ، لكن هيْت لهم ، فإزعاج المَغْلوب على أمره وتهشيم جُدران بيته وسحق بُستانه بالجرّافات ليستْ من الحَصافة الإنسانية وليستْ من القِيم الوطنية والمُثَلِ المُتوارثة .. كان أباكَ لا يَرتدّ عن قول الحق ، تُنازعه نفسه إنْ لم يَقُلْها علناً يقول الحقيقة ولو على نفسه ، هكذا عهدناهُ مذ صِغره ، لا يخشى لَوْمة لائم ، تفزّ الكلمات من فمه عامرة بالإيمان ، لكنه للأسف لم يُتمّهُنّ .. لم يستطع ولم يَقْدر ، كأنما أمرٌ كمّمَ فاهُ ، لثغ لسانه وتثاقل .. ارتجفتْ شفتاه ، واهتزت أطرافها . قلتُ لعمتي وأنا إلى جانبها وقد ارتصّ ثوبها التقليدي بجسدها ، ثم تابعتْ تُكْمل حديثها .. كان عبدالله .. فقاطعتها ، نعم يا عمّتي أتذكر ذاك الموقف جيداً .. دمدمتْ عمتي برأسها إلى صَدْرها واغرورقتْ عينيها بالدمع ، ماءً ينسكب من حُجر مُقلتيها ، بلّل ثوبها البلدي الأنيق بزركشته الجميلة ، التي قلّ أنْ تجد مثله زيّاً نسوياً فضفاضاً ، حافظتْ عليه المرأة في حارتنا الكبيرة .. أغمضتُ عيني فكأنّي أراهُ حاضراً غير غائب .. تابعتُ بدقة تفاصيل انقطاعه عن البُكاء ، ثمّ غَمْغم كأنما شيء يَنْفجر في داخله ، ينشطر .. يتقطّع فلم تعُدْ أحبال صَوته فاعلة ولم تكنْ دَمْعته حاضرة ، توقف فجأة .. شخصتْ عينيه وقد صَوّبها تجاه الحقْل والجدار ثم وَمَضتْ عينه إلى أمي .. ساعتئذٍ قد اصفرّ وجهه وتجمّد جسده .. صاحتْ أمي بغضبْ .. وشفتاها تتشنّجان وغدا وجهها احمر .. أحسّت أُمّي بإشفاقٍ فُجائي ، إشفاقٌ غير مُبين ، لم تُظهره لغيره من قبْل هذه الحالة المُريبة التي أزعجتها .. بَهَتتْ وحَمْلقتْ ، ثم وضعتْ يدها فوق عينيه وأرْخَتْهُما إلى تحت ، فَأَغْمَضْتهما بيدها ، كأنها تمسح عليها مَسْحة أخيرة ، مَسْحةً بقتْ ذِكْراها تحمل قيَم الوُدّ ودفء السّكن وحُسن العِشْرة ، مُتنسّمةً بالفضْل والإحسان والمعروف الذي لا يُنسى أبداً .. حملتْ شيئاً ثقيلاً وألْقتهُ على جسده ، فكان غطاءً سميكًا ، سحبته من علياء رأسه حتى أخمص قدميه وكتمتْ غيضاً . تنفست وسحبت هواءً عميقاً ، كأنما آلة كهربائية تشفط شيء بقوتها .! وعلى أثر هذه الكلمات ، انسحبتْ عمتي ، وأخذت تسير بخطوات ثقيلة ، إلى خارج دارنا ، كمن يُجرّ إلى حتْف اُنْفه ..! أرقب ثوبها وقد تبلّل لحافها واختلطت دُموعها بِمُخاطها .!
    بعد سبع ليالٍ وعشيّة جلستْ أمي بقربي ، وأخذتْ تحكي مناقبَ أبي ، تُحرّضني على البَقاء على نهجه القويم والسّيْر المُسْتمد من أخلاقه وقِيَمه ، وأنْ لا استسلمْ لأحدٍ كانَ من كانْ أو من يكونْ هُو ..؟ وإن مُتّ دونها .. فالحياة مكتوبة وكذا الموت لا احد يزيد فيه .. كل شيء عند الخالق مُقدّر ومكتوب .. وبهدهدة أُم ، إعلمْ يا ـ بُنيّ ـ لا تُنْزع الرُّوح إلا بِعِلْمه ، يَعْلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور .. حتى الورقة التي تسقط من الشجر يَعْلمها ، كل شيء مَعْلوم ، لا يَخفى عليه أمر وإنْ بلغْ .. ! فإياك ثُمّ إياك ، أن تكونَ أقل قِيَمة أو أرخص ثمناً من قيمته ومَعانيه الثمينة ومَبْلغ فهم أخلاقه .. فأباك عاشَ برجولته حيّاً وماتَ عليها .. بَكيتُ بحرقة ، ارتميتُ في أحضانها .. شعرتُ بقشعريرة ، ثم وَخْزةٍ تَسري في جسدي ، حقدتُّ على القائمين على هذه الوطنية ، وعلى أؤلئك الذين يسترخصون أموال الناس ، هواناً عليهم ، ذُلاً وَقَرْفاً .. يترفّعون على غيرهم بقوة مَكانتهم ويَنْسُجون خُيوطاً باهتة ـ كخيوط العنكبوت أو هي أشدّ ضَعْفاً ـ ومن وقفَ في وجههم أذلّوه وأهانوه وحقّروه .. كما فعلوا بأبي .. أقسمتُ في داخلي ، ثم جهرتُ به لتعلمَ أمي يقيناً :
    - أُقْسم يا أمي ، أني سأنتقم لروح أبي .. سأنتقم من تلك الأنفس التي تستحقرني وتَسْتضعف غيري من الناس . ولكن ألا تُخبريني القصة بكل تفاصيلها الدقيقة ، كيْ تبقى مُختزلة في ذاكرتي .! قبّلتي أمي بين جبيني ، وراحت تسرد حكاية أبي :
    - عاش أبوك طوال حياته عزيزاً كريماً ، حتى جاء اليومَ الذي كان هو ومن معهُ على ذُلٍ ومهانةٍ وهَوان وطنيّة كحال غيره من البُؤساء والمُستضعفين والمُسْتقصدين كما هو الحال في حكاية أبيك هذه .. فعزّتْ عليه أن يُفارقها أو يَهْرب منها ، لتبقى هذه الحكاية المَريرة شاهدةً على رُجولته وعزّة نفسه ، يومذاكَ كُنت صغيراً ، ولمْ تَعيَ كثيراً منها .. سكتتْ وهي تَغْرز عينيها في عيني .. ظلّ بيتنا ومزرعتنا بحقلها الصغير الذي نقتات من أزهاره وثمار مزروعاته خيراً كثيراً .. كما استفاد منه مُجتمعَ هذه القرية المُتسامح أهلها ، حتى جيراننا كان لهم نصيبٌ وافر منه ، حين يكون لديهم خصْب من الزّرع أو مَحْلٌ من الماء ، إذْ كان أبوك طيباً قانعاً ، لا يدّخر شيئاً كثيراً لنفسه إذا ما عَلمَ أن هناك من يحتاجه أو من هُو أحوج منه .. إلى أن جاء ذاك اليوم المشئوم ، فلمْ تطول ليالي ونهار المُهلة غير أيامٍ معدودة .. حتى ابتدأتْ طاحونة العذابِ بكلّ ما تحمله من أسىً وأذىً نفسي ، من خلال ثقافة الحِرْمان ومصالح اللّقْمة الوطنية التي سَرعان ما أودتْ بِقَهر ثقافة الأمان والعيش الاجتماعي بما تحمله من قيمٍ ومَعارف كُنّا عليها مُلتزمون بأخلاقياتها ، ولكنّ اللّقْمة الوطنية تطلعتْ إلى أبعد من ذلك ، فأخذتْ تقتلع المزروعات ، فطار صوابك ومن معه من الرجال وتوثّب كفأر مذعور ، ماذا يفعل .؟ وكيف يتصرف .؟ أمام طيّات المزروعات التي أخذتها الجرّافات وطيّتها طياً كما تُطْوى قراطيساً لا مَنفعة منها ولا صلاح .. ويوم ذاك كانت صرخة أبيك مَدْويّة .. أمَا آنَ لهذا الليل الغاشمْ أن يَنْجلي ..!! ثُمّ أخذ يجرّ قدميه ووقف بصلابة أمام حلْق الجراّفة غير عابئ ولا خائف ، وقدّم رُوحه قُرباناً لذكرى لن تموت .. ذكرى الذلّ والمهانة والاحتقار .. ذكرى تأريخ اللّقمة الوطنية البخْسة .!؟ لكنّ قدمَ بعض الرجال خارتْه ، فربما شعرتْ بأن لا فائدة لوقفتها ، لكن عبدالله كان ذا عزْمٍ وجَلَدٍ وقُوة وشَكيمة لا تَلِيْن ، فقد أبرّ بقَسَمه .. لمْ يتزحزحَ ولمْ يَقُم من مكانه .. فاستكان بقوة إيمانه ، بأنّ التأريخ لن يخذله .. ويومها قد أوجستُ في نفسي خِيْفةً وأنا انظرُ إليه من باب غرفتي القائمة على أعمدة قوية وجُدرانها مَبْنية بالطوب والجص البلدي غير الموروربَ ، وغير المُحكم إغلاقه كُلّياً .. رفعتُ أنفي لاشتمّ النسيم لئلاّ اختنق ، ظهرتْ صورة جسد عبدالله من فتحة الباب تلك ، ظهرتْ لي صُورته كأنّما جلس القرفصاء بعزّة وشموخ وبيده مَسْبحته يَدْعَكُها بأصابعه ورأسه يتحرّك بالنفْي والرفض ، وأكتافه تُوحي أنها تسبّح بمتمتمات ربّانيه .. وتساءلتُ ، أيكونوا قد لَبَدُو بكمينٍ لعبدالله .؟أحسستُ بقلبي يدق يكاد ينقبض .. وشعرتُ بأنّ نبضات قلب زوجي عبدالله تتقلص عضلاتها ، وتسير إلى دقات بطيئة .. تمنّيتُ أنْ لا يجلس على صخرة تدفّق الماء ، فلتوّها رطبة من اثر السّيْل الذي استمرّ لأيام عِدّة وتبدو زلقةً ، دَبقةً من آثار طحلب الماء .. كان النهار لا يزال باقياً ولم تزل الأشكال واضحة ، مرئية بوضوح أمام الأعين النقيّة بطلعتها البهيّة التي ترى الأشياء جميلة كما ترى الآخرون عليها حق لهم أن يتمتّعوا بجمالها ، ناهيك عن حُكم سُكنى الوُدّ بينهم وارتباطهم بوثيقة قُربى صِلة المكان .. فما أكبره من ارتباط وثيق وما أعظمها من صلةٌ تقربنا إلى ذات الشيء زُلفىً ولو كان صغيراً ، فهو في صُدورنا وقلوبنا كبيراً .. وفي الأثر نقرأ أن رسولنا الكريم نظر إلى مكّة مرة ، وقال قولة تأريخية ، لولاء أنّ اهلكِ أخرجوني منكِ لما خرجت ..!! ، على تلوَ كلماتي تلك ، كانت الشمس تسقط بقرصها إلى أعماق الأرض وفق رُؤيتنا لدوران الأرض ، ونورها الوضاء ، آخذٌ في التلاشي ، وتزداد ظُلْمة المكان سواداً كُلّما بسط الظلام نُفوذه وشدّته على أرجاء المكان .. في هذه اللحظة أخذتُ أُناغي دفئه كطفلي الذي ألاعبه ، الذي سقط بغير حول مني ولا قوة ، عند تلك الصخرة حين اندلقَ مني طفلي قاسم ابن الأربعة شهور ، وانزلق عبر تدحرجه من فوق الصخرة التي جلس عليها الآن أباك ضداً وندّاً ضد أؤلئك الأوغاد الذين تكالبت علينا مصالحهم وصارت وطنيتنا منفعة تتقاذفها المصالح أينما ولّت أو حلّت .. وإلا ماذا تقول في إخراجنا منها بحجة مشروع سياحي .. فنادق وملاعبَ للجولف .. ودُورٌ للسينما ونوادٍ هُم عليها قائمون .. وما أدرانا بعد ذلك هُم فاعلون .؟! نظر أبوك في حينها ، نظرةً قوية وكبيرة ، أحسستُ بوخزها كحرق نار ، تُوشمني بها يدٍ هيَ الأصل عليلة وبِعِلّتها تود أن أكون مَريضةً ، سَقيمة مِثْلها ..!! ساعتها كانت ابتسامة عبدالله ، إبتسامة يسخر بها مني .. إبتسامة يُشمّتُ بها عَقْمي .. من يومذاك المشؤوم .. نظرته تُوحي إلى فراغ الدار .. وهي الوخزة التي تُؤلمني .. فقاسمٌ ، قسمَ بيننا مودّتنا ، وقسَم دارنا ، وشتت حقْلنا ، ليجعله ذاهبٌ إلى حيث هو ذاهب .. فقاسم ذهب بروحه إلى سماء ربّه العالية ، وحقّنا المُجحف من أصحاب المشاريع الوطنية سيبقى للتأريخ مآباً وسيسلك طريق الاُنْفة والشموخ ، وسيكتب حروفه بماء الذهب الذي يبقى ولا يزول .؟! سقطة دمعتي، اغرورقتْ مقلتايَ ، وفاضتْ دمعاً ، وسالتْ كما تسيل الأنهار .. وتخايلتُ وأنا بتخايلي ذاك ، تمنيت وتمنيتُ ، كثيراً ، تمنيتُ ، وأنا أراني وسط سيْل عرمرم ، وكوكبة من نجوم آدمية ، أطفال ، وصبايا .. أُداعبهم وأُلاطفهم ، أحافظ عليهم كما ينبغي ، لا أفعل فِعْلتي الأولى ، كما انزلق قاسم ، فأسرع به الموت ولم يأتي بعده أحداً ، لأبقىَ على عُقمٍ ، قسمَ مودتنا ولو كان ذلك خُفية في الصدور .. بكيتُ من الفرحة وأنا أرى هذا السّيْل يتدفق في نهرٍ غير مقسوم بيني وبين زوجي عبدالله ، كلانا يُوزّع ابتساماته لجميع اؤلئك الأطفال .. بكيت من الفرحة الكبيرة التي اعترتني فجأة .. تأثرتُ من حالة العُقم التي انختمتْ بمجيء أختيك التوأم .. وقفت بُرهة ، أتحسس بطني .. انظر في مرآة أمامي ، هززتُ راسي ، أنا الآن كبرتُ .. في الأربعين من سِنين عُمري الذاهب بغير رجعة ، فأيّ مُضغةٍ بَعْدها تتخلّقْ .. لنْ يتخلّقْ آخر بَعْدهما .. وكأني اهزأ على نفسي .. مَن يتمنى تلكم الكوكبة ، يجب أن يكون عُمره أقل بكثير من أربعينية السِنين ..؟! لحظتها كان رجل جميل ، يقف قُبالتي .. لم أتبيّنه اهو عبدالله أم غيره .. لكنّ حدسي لم يذهب بعيداً ، حينَ أيقنتُ انه قريب الشّبه من صُورته الآدمية . واجهني بأسئلة كثيرة .. من يتحدّى رغبة ليستْ له ، فكُلّ رغبة ولّتْ لا تعود ، ونزعة السنين لا يقدِرَ عليها أحدٌ .. فإنْ حيتْ رغبة ماتتْ أخرى ، ومن يموت لا ينشأ إلا بقدرٍ وكلّ مُقدّرٍ له قدر ورزق يحمله في كتاب .؟فالنفس لم تَعُد بيدها فِعْل طريق الحياة ولا صُنع البقاء لنفسها ..!؟ تموت وتبقى وِفْقَ طبيعتها .؟ فلعلّ خيرٌ تعلمه النفس ، ثمّ تهجس ظنّاً فيه ، ورُبّ ظنّاً تتوجّس منه النفس فتنقلب على عَقبيْها من شرٍّ قادم ، ولكنّ الخير يكون فيه ..! فكلاهما في غّيبيات ، وأنا أدلّك على صنيعٍ جميلٍ .. إياكِ أنْ تحملي الظنّ القَطْعي أو الجزْم في الشرّ والخير ..؟
    عند لُبنة الفجر وبياضه كانت بسمات الصباح تشقّ عن روعةٍ مكانٍ أخّاذٍ أبهرني جماله وأنا ارقبه ، أطالعه بقوة نظرتي ، فينتشلني من غفوةٍ التخايل .. وبدوتُ أستفيق .. وتأكدت أنّ ما كان ، ليس إلا مجرد تخيّل .؟! وجّهتُ وجهي صوبَ طريق جديد واسعٍ للسيارات تمخره جيئةً وذهاباً ، قال عنه احد كبار المسئولين مدافعاً عن هذا المشروع ، وأنا أتأمله على امتداد نظري ، اسمع هدير أصوات عجلاتها واحتكاك هيكل أجسادها في أصوات بعضها ، تجوبه سياراتٌ صغيرة وأخرى كبيرة ، ومركبات ضخمة بُحمّلة بأطنانٍ ثقيلة.. باكرةً وفي الغداةِ لا تهجع عن أزيزها وهديرها وأصواتها العالية وهي تخترق حارة ساكنة هاجعة ، لها تراثها البعيد الغارق في أعماق تأريخها العريق ، هذا ما استفزّ به قاطنوها ، ولكنهم خيّبوا موروث شديد الخصوصية المكانية ، موروث حكيَ بالصُورة الباقية سيرة الأجداد وقوة صلابتهم ، ولهذه الأسباب كان عبدالله ومن معه يرفض بشدّة تكرار تواطؤهم وتنازلهم لأجل هَدم بُنية القرية بكل ما تحمله من موروث عريق ، إذ كان يُردد إن سمحنا نحن اليوم ، فمن يضمن أن تغفر الأجيال اللاحقة لهذا الخطأ الجسيم ، أهم تركوا لنا هذا الإرث الكبير ، من اجل هدمه أم اجل الحفاظ عليه .؟ لا تطربني أصوات السيارات والمركبات كبيرها وصغيرها وهي تسير في عرض الشارع وأصواتها المُزعجة تعلوها ، كأنّ أجسادها تتصادم في بعضها وهيَ تمخُر عُبابه وتشقّ بهديرها راحة الساكنين وتُقلق ساكني البيوت المُطلّة بردهاتها على قارعتها المُنبسطة في الرَوْحة والعشيّة بأصواتٍ مُزعجة لا تكفّ عنها ..! شوارع ضخْمة فسيحة تزيّنتْ بأشجار الزّام على جانبيها ، فبلدية الحارة تقوم بتشجيرها ، وفلسفتهم ، لكيْ تمنح السالكين في سيرهم السريع بثاً من السّكينة وتمنع حرارة الصيف وتحمي أكتاف الطريق من أي مُعتدٍ من داخلها أو من خارجها ، كيْ تبقى زينتها التي تزيّنت بها في ديمومة البقاء والتواصل ، وليكون قائد السيارة على ربيعٍ من الاسترخاءات مُنبسطاً على طول امتداد المشروع الكبير التي تأمل به الوطنية أن تُثمر امتداداته بشيء من التناغم والحيوية المُرهفة ، يخترقه هُدوء ينساب إلى الساكنين من كل مكان .. ناهيك عن محطات البترول ، بكل ما تحمله من أداة ترفيهية بزخم مُرهف واسع يُعبّر عن رُؤية العالم الجديد بأحاسيسه الجديد غير المسبوقة في عالمنا المحلّي .. وحسب ـ اعتقادي ـ من هُنا جاءت فكرة إعطاء المصلحة الوطنية شيء من الجدّية لأنها مصلحة مُقدّمة على المصالح ذي النّفْعيّة الفردية .. سِيَما أن التطور الحديث يعني تمدّن البشرية ، ولكل مشروع غاية وكُلّ غاية فيها فجوة وطالما هناك فجوة فلا بُدّ من هفوة جوادٍ ، أيضاً .. ويرى المسئولون ، المُنَظّرون للمشروع الكبير، انه في حالة كبْوة الجواد أو حصول هفْوةٍ ما .. يُستحسن أن ينهض الجواد من كبْوته .. كيْ لا يكون مُثيراً للجدل ، بكبوةٍ لا يستنهض الهمِّة فيها ..!! ولهذه الأسباب تَحْملنا أن نتقبّل الآخر وتُلْزمنا أن نعفوَ عن هفواته .. فالغايات الفوقية لا تُوجب أن تعلمها الرغبات الدُّونية .. فلكل غاية هدف ، ومن كتْفِ الهدف تظهر غايات محددة أو غير مُحددة .. ترسمها المصالح ..؟! لذا يتوجّب علينا أن نَسُد الفجوة إذا صدرتْ منها هفوة لا نُحبّذها ، بقدر ما نتمكّن من تمحيص الوسيلة من خلال الأهداف والغايات لتكون دقّة الوصول إلى حيث ما يسرّنا وننتفع به ، فمصالحنا أهم بكثير ، من تراثٍ بالٍ لا يجني لنا شيء من مصالح ومنافع وطنية ولا تُمكّننا ماضيها من التعايش السّلْمي ، فلسان حالنا ، هو مُبتغى المعارف الإنسانية من مُنطلق وخلقناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا ..؟! ، كان هذا الموقف المشؤوم ، حوّل عبدالله إلى نهايةٍ سَوداء .. أتذكر يومها يا ـ أحمد ـ والمسئول يَسْتعرض على أبوك تفاصيل فكرة المشروع ، صرخ في وجهه .. ليس هذا هو التعايش .. لا نبْغي تعايشاً إن كان يحمل في فكرته مَفْسدة ، فنحن في غِنى عنه .. ! أموت هنا . ولن اقبل بشيء منه .؟!! ويوم ذاك حاولت أن أحاوره ، أن أقنعه وقد جلستُ معه كثيراً وتوددت إليه وحاولت ثنْيه عن عزْمه فلم استطع إلى ذلك سبلاً ، إذ كان مُصراً وعازماً لان تذهب رُوحه فداءً ويكون ثمنها حينَ يعلمَ الناس والأجيال اللاحقة ، أن القِيمْ تُورث وأنّ تُراث الآباء باقياً وموروث الأجداد خالداً ، كنتُ يومها أتودد إليه أن يسمعني :
    - طيب دَعْنا نحمل ما يُمكّننا حَمْله من متاعٍ وأثاثٍ ، كيف شئنا وارتأينا إلى أي جهة نُريدها ، ونعتصم بحبْل الله ، فندّنا ورفْضنا لا يُغيّر شيئاً من نزع المُلكية وذريعة المصالح الوطنية .!
    - ضحك ، باستفزاز .. ونظر نظرةً قاسية ، ماذا بعد حُفْنة المال التي تلقيناها ، أليستْ هيَ بشفقة وإحسان منهم ؟ أليسوا هُم القادرون على أن يحرمونا من كُل شيء، بذريعة المصلحة الوطنية ومرجعيّة الشراكة الدولية .. أهذه هيَ المنفعة المُجتمعية ، أنْ نبخس حقوق الوطنية ، ونمحوَ كل آثار جميل لمكانة الأولين ، كيْ لا يبقى للأجيال ما تعتزّ به وترفع رأسها بمجدها التليد .؟! أهذه هيَ عزوة الشموخ .؟! وهل المال سيغيّر شيئاً أو سيضيف شيئاً عن سنين مراتعنا ، فالبيت والحقلَ مَنْزوعا الملكية ،وفي غمضة عيْن يكونا مسحوقا البُنية ، دكّاً دكأً ، يتساويان والتراب .! فهل المال أضاف شيئاً أو بدّل شيئاً أو جاء بشيء جديد ، غير الذي فعلوه ذُلاّ وهواناً .!؟ سكتُ وبقيتُ صامته ، لكن إلحاح أحمد أن أكمّل تفاصيل المأساة التي وقعتْ بأبيه وقريتنا وبقية الرجال الذين كانوا معه ، جعلتني لا أُخفي سراً عليه ، وإن كانت هي أمانة على رقبتي ، تركها لي عبدالله ليعلم أبناءه وغيرهم من الناس .. فقلتُ بعد حمحمةٍ ، وحُرقةٍ اشتدت على حنجرة، وبقيت في سعالٍ مُستمر ، عندها ركض احمد مهرولاً ، وأحضر معه كوب ماء ، فشربته جُرعة ، جُرعة ، كأن هذه الجرعات كآخر ماء اشربها من هذه القرية الساحرة بتراثها ، تخلب ألْباب الناظر إليها ، وتأسر الأفئدة بمراتعها الجميلة ، وبساتينها النديّة ، ونخيلها الباسقة وأشجارها الغنّاء ، وجبالها الشامخة وتُربتها الطينية الصفراء التي قيل عنها يومها ، أنها أفضل تُربة صالحة للزراعة ،.. سألني احمد ، كيف كان حال رجال أبي يومذاك يا أمي ؟ ، تنفستُ الصّعداء، وأردفتُ:
    - كانوا يا ـ بُني ـ أشدّاء على غيرهم رُحماء بينهم ، مُتعاضدين ، مُقيمي الصلاة ، قلوبهم عامرة بالإيمان ، راضين بعيشهم وقانعين بفضل ربّهم ، ذي أنفس عالية بالتوادّ والمحبة والتآلف ، سُلوكهم التآخي والتقارب .. جمعت أكثرهم كلمة واحدة ، لا .. لمصلحة تُفرّقنا ..!!
    قلت لامي بهدوء :
    - يا أمي ، لو تُخبريني أكثر دون توقف ..؟! تلك لحظات جميلة بعنفوان الجرأة والعزّة ، ولو علّمتيني إياها ، لسلكتُ طريقها ، وتفكّرت في فهْمها ، فإني أراني على قوة سجيّة تدفعني للالتزام بها .. مُؤكداً حُضورها المعرفي ، مُرسخاً مبادئها القيَميّة ، مُقدّراً جُهود الأولين ومُحترماً رأي الباقين عليها .. فماذا أنتِ قائلة ..؟!
    هزّت أمي رأسها رغبة مني في تواصلها .. فاردفتْ:
    - في تلكم اللحظة القاسية ، لحظة حوارنا الجدلي .. كنتُ أستعجل الشمس كيْ تتوارى ، وتأتي الظُّلْمة ، ظُلمة الليل ، فجمال الأشياء في الذي يأتي خَلْفها ،ثمّ الذي يأتي عَقِبَها .. فكما يُقال أنّ لِلّيْل أقدام يمشي عليها على غير أقدام النّهار .. فلعلّ عبدالله يرضى وتَسْري في نفسه الطُمأنينة إذا جاء سِتْر الليل .. أنصت يا ـ بُني ـ سأتخايل تلكم اللحظات ليس إلاّ ولكن سآتيك بما هو أجمل منها ، لحظات مسكونة بسرّ أو لُغز عمي عبدالرحمن .. أغمضتُ عيني ، واستمريتُ في سرد الحكاية .. وكأني أحسستُ بـزوجي عبدالله يلكزني بطرف عصاهُ ووجه مُقطباً :
    - أتعرفي ذاك الرجل السمين .؟
    أمْعنتُ النظر فيه :
    - إنه عمّي عبدالرحمن الذي أصابته ارتعاشة هوس ، فارتحل عنّا ولا نعرف عنه شيئاً ، حيّا أو ميّتاً .!
    - لكنّ الأهل اعتبروه في عُهدة الغائبين حتى يَؤوب ..
    - لماذا..؟!
    - هكذا هو تُراث ديننا يَحثنا أنْ لا نستعجلَ في تأبين الغائبين إلاّ إذا تأكدنا من حقيقة موتهم إطمئناناً بشهادة الثّقات .!؟
    زحفتُ إلى أمي ، وضعت رُكبتاي على رُكبتيها، وقلت :
    - لن تُغمض لي جفن حتى اسمع آخر هذه القصة المشوقة . إني أجدها ذات مغزى ومعاني رفيعة ..!؟
    وبدت أمي في سرد الإحداث في لذة السّر وسُكون صوتها وهدوء نبرة حديثها :
    -إني أتخيّل هذه اللحظة ، إذْ كان عمّي يُمسك عصاهُ بيده ويهزّها في وجه رجلٍ هزيلٍ .. تذكرتُ ذاك الموقف .. وأنا صَغيرة ، قِيْل لي ، أنّ أحداً من الرجال ومعه مجموعة صغيرة ، جاء إلى عمّي ، لينتزع منه " اللِّياخ " شباك الصيد التي استولى عليها أبي وجماعته في عرض البحر ، وكان ذلكَ الحدثَ ، إِثْر خلافٍ قديم ، موثقاً بعضه ، وأغلبه مُتناقل على السنة الرجال .. إذ كانوا يُلقون شباك صيدهم ، بالقرب من حُدود اتفق عليها ـ سلفاً ـ أنها مُحرّمة على شباك الجرف ويُسمونها اليوم " الجرْف القاعي أو القارّي " اؤلئك الرجال كانوا من قرية مُجاورة رفض عمّي وجماعته مُقابلتهم بحجة نقضهم ما تمّ الاتفاق عليه مع أهليهم الأولين .. وكان من ضِمْن المتفق عليه ، أنْ لا يرمي البحارة شباكهم باللّيل خلا النهار فقط وعليهم أن يأتونها في وقت لاحق قبل " سُلوم الشمس " أي قبل زوالها ومَغِيب قُرصها .. وحين خالفَ الرجال الاتفاق ونقضوا عهد آبائهم ، قام عمّي وجماعته بإقلاب قواربهم وحَمل ما استطاعوا إلى حَمْله ، وخاصة تلك الشباك المُتنازع عليها في حُدود المياه الواقعة في حوزتهم ، حسب الاتفاق القديم ، وحُجة هؤلاء ، أي رجال عمّي ، أنهم يفعلون ذلك لتبقى الأسماك تتوالد وتتكاثر ليلاً وبالتالي أن هذا المكان قريب من سُكناهم ، وحُجة أولئك الرجال في ذلك ، أنّ هؤلاء ، أي أصحاب عمّي ، لديهم قوارب صيد صغيرة وشباك قليلة ، فلو يشتركون معهم لكان خيراً لهم .. لكن أصحاب عمّي عبدالرحمن ، يرفضون ذلك ، وحُجتهم في ذلك ، أنهم قانعين بما يُطعمون به أهليهم ، مما يقومون به من صيد السّردين ، مُستفيدين من بيعها بعد تجفيفها ، فيقومون بتخزينها ، سواء أكانتْ للبيع أم لإطعام الحيوانات ، ولذا فَهم لن يسمحوا لغير رجال قريتهم بأنْ يشترك معهم في الإبحار في سواحل قريتهم ، طالما هناك اتفاق قد سبقهم بسنين ، وفي إطار الحدود المُتّفق عليها لا أكثر ولا اقل من ذلك .. لكنّ أهل هذه القرية يرون مالا يراهُ أصحاب عمّي ، أن الزّمان قد تغيّر وان تلكم الاتفاقية مضتْ عليها سُنون وعلى هذا الأساس ، فإن الاتفاقية المزعومة تسير وفق تقادم غير مرغوب فيه ، ويحتجون أيضاً أن " لياخهم " شباك صيدهم ، كبيرة ، اشتروها بمثن غالٍ جداً مع سُفن كبيرة وواسعة لتتماشى والغرض المطلوب تأديتها عليها ، فهيَ تعمل على طريقة الجرْف .. وهذه الطريقة ليستْ ممنوعة في البلاد الُمجاورة ، فلماذا تستحوذ عليها قرى ظاهرة عن أمر مسؤولية الحارة كُلّها ، فجميع قُرى حارتنا لا تختلف عن غيرها من القُرى في المسؤولية المُشتركة ..!! كما يرونَ أن التحكّمَ في مياهٍ كهذه من شأنها ، أن يكون مُدعاة إلى تقسيمها على أساس حُدود مياهٍ مُتفرّقة ، بينما العالم الجديد يسير وفق وحدة واحدة ، فلا يجوز هذه في حوزتهم وأُخرى في حوزة غيرهم ، وهذا العمل من شأنه أن يُقوّض الجُهود الرامية إلى تحديد السيطرة الكُلّية على الثروات جميعها ، لأنها في الأساس ليستْ بحق لهم دون غيرهم ..! وعلى مبدأ هذا الاختلاف في الرأي ، قام عمّي عبدالرحمن ومن معه بالاستيلاء على شباكهم ومُصادرتها مُصادرة نهائية واعتبروها غنيمة وقسّمها على الرجال ، فاستشاط الخصْم غضباً ، واندفعوا يشكونهم ورفعوا مطالبهم إلى جهات عُلياء ، كانتْ سبباً رئيساً في إذكاء الفتنة وتمزيق المُجتمع الأمن .. وبما عمّي عبقرياً ، حسن التصرّف ، حكيماً في كل المواقف ، أشتهر بذكائه المتّقد .. أخفاها في أماكن آمنة ، بطريقة مُتفرّقة .. وقدْ نفى قيامه بهذا الأمر .. وادعى أن رجال خَصْمه هُم من قاموا بالاستيلاء عليها وإخفائها .. وأنه علمَ أن رجالاً هربوا من موقع جرف الصيْد وأنه يشكّ في ولائهم للخصْم ..!! هكذا ـ يا ولدي ـ أتذكّر كثيراً ، تكاد التفاصيل أجدها كشريط يمر عليّ ، اختزله عقلي ولم يُغادرني أبداً .. يومها يا ـ أحمد ـ ، جاء مسؤلاً من القرية الكبيرة التي كانت على تداخل اجتماعي وعائلي مع قريتنا .. فرفض عمّي استقبالهم كما رفض عرضهم جُملة وتفصيلاً ، حتى النقاش معهم ، جعله باباً مُغلقاً ، لا احد يقترب منه ، لأنه كان يَعدّ ذلك تنازلاً وقبولاً مبدئياً لخيانة القرية وأهلها ..! ما لمْ يُعلنوا قبولهم بالاتفاق السابق ، وبَعْد ذلك ، يُمكن الجلوس والحوار على كل شيء يَرونه في حاجةٍ إلى مُعالجة استثنائية ..! وبهذا الرفض من الجانبين لم يُتمّ التوصّل إلى اتفاق مُعلن .! وما علمته أنا أخيراً .. أن رجلاً كبيراً جاء إلى عمّي .. وسلّمه شباك الصّيْد " اللّياخ " ودفع عمّي مالاً عن قيام رجاله بإتلاف بعضها .. وبعدها بأيام اختفى عمّي كُلياً من القرية ، خاصة بعد أن انتابته موجة من هوسٍ لم يُعرف عنها شيء .! بكتْ أمي بحرقة ، واندفعت تذرف دُموعها .. حاولت أن اقترب منها كثيراً .. لا تهتمي يا أمي .. سأكون كما تمنيتُ لن أضيّع شيئاً سار عليه الأولون إلا في حدود ما يسمح لنا بالتجديد وفقَ تعايش الحاضر والمُستقبل الآتي .؟ تراءتْ أمام عيني ، أغصان الأشجار والنخيل الباسقة ، تسحقها الجرّافات ، تقتلعها من عُروقها ، من ساسَ تجذّرها في أعماق التراب .. تميل بعذوقها إليّ وتُخْفي ابتسامة ثمرتها ، تنحني بثمارها باسقة بعُذوقها فتتلألأ أغصانها ، تُوميء إليّ بإشارات خفيّة لا أحد يَعْلمها غيري ، إشاراتٌ رمزية استخدمتها أشجار الحقْل نظير تلك الأُلفة التي كانت بيننا ، كأنها تستغيثني وتحتمي بي .. وآنا غارقاً في غيهب تخيّلاتها ، كما وصفتها أمي وكما أنا شاهدتها قبل ذاك ، سألت أمي :
    -وماذا فعلتِ لحظتها ، وأنتِ تُشاهدينَ التعّب والجُهد ينتهي أمام مِرأى عينيك .. ؟!
    -نظرتْ أمي فيّ وجهي نظرةً عميقة ، ذات مغزى .. لحظتها يا ـ أحمد ـ ولم تستطع أن تُكمّل .. ذرفتْ دمعاً ، وتنشّجتْ ثم رفعت طرف لحافها ، وضغطت على اُنفها بهدوء .. ثم دعكته في أطراف لحافها وكأنها تُخفي حركتها عنّي .. يومها يا ـ بُنيّ ـ لمْ استطيع فِعْل شيء ، فعمي ذهب ، وهذا زوجي ، ذاهبٌ بغير رجعة .. ماذا يُمكنني فِعْله يا أحمد ، وأنا إمرأة .؟! لكني استطعتُ أن اجمع المعاني القيّمية وأُرسّخها في فهْمك ، كي تعلمَ أن التعبير عصبٌ يمتدّ إلى أجيالٍ وأجيال ، وقد تفقد عباراته الأدبية صُور أفكارها نظراً أن الذهنَ الآتي لا يتلقى التأليفَ توثيقاً ، فلكل جيلٍ مَنْسكاً ووجهةً هو مُولّيها ، وأي جيل آتٍ لا يتزهّد بقيمْ الأولين لا تنتسقَ تعبّداته القيمية ولا تنزرع في نَسَقِه ، لأنه وقتها يكون غير قادرٍ على حمْل أفكاره إلى غيره بأسلوب الأمر والنّهْي .. والتأليف ، التوثيق منه قد يحتمل صواباً وكثيراً ما يشوبه مُغالطات الخطأ وقليل هُم الثّقات ، الذي يُوثّقونه بصدق ، وأهل الدار خير من الذين يكتبونه خارجها .! وكما يُقال أهل مكّة أدرىَ بشعابها ..؟! ولا تنفع نفساً أن تقول ساعتئذٍ ، ليتني مِتّ قبل أن أرى جرّافاتٍ تسحق مالي ، وتُبعدني عن أهلي وتُقصيني عن بيتي وبُستاني وتُمزق أواصر محبة قريتي وألفة جماعتي .! فقد تُنسى الأشياء نسْياً مُتعمداً أو غير مُتعمّد ، لكن الأشياء التي تُزعزع مكانة قيمة التزهّد والتعبّد ، تبقى مُختزلة لأنها تمسّ الذاكرة القيمية وإن ماتتْ ..!! سكتت أمي .. تخايلتُ ، وانبسط التخايل كحلم ، انظر إلى أبي ، يدهُ مكتوفة ، وفمه مُكمّمٌ ، يُحاول أن يصرخ ، أن يُناديني ، إلا أن صَوته كان مَحْبوساً ،وأنا أحاول أن ازحف نحوه ، اجرّ رجلي بتثاقل ، عربانتي ادفعها بيدي ، نظرتُ فيها ، جسد أبي مُثقلٌ بها ، اشترك بي أمرها والتبسَ عليّ شيئاً من مِثْلها .. كيف يكون أبي في عربانتي ، في وسطها وقد جلس بقرفصائية مُحتدّة كخائف أو هارب من شيء أو كمنْ يلوذ بجسده الضعيف فيحتمي بي ، وتساءلتُ بسرية تامة ، يحتمي بـ العربانة ..! دقّقتُ النّظر وتفحصتُ صورته ، إنه هوَ حقاً ، أخذت ابتسامته حيّزاً مكانياً فاتّسعت في أرجاء أحشائي .. تملّكتني ، كانت اللّيْلة طَخْواء ، شديدة الظُّلْمة ، لكن نور أبي مُشرقاً باسماً وجهه يتلألأَ حُسْناً .. شنّكت جفنيّ وتوسعت أطراف بُوزي ، هممتُ لامسكَ بجسد أبي .. أحسستُ بأني انتفضتُ وعلى أثرها استفقت ، ثمّ سالتُ أمي ، كيْ أجعلها مِحْور حديثنا :
    -ماذا فعلتِ ؟ لم تُخبريني .؟! " كيْ لا تفهم أمي أني ذهبتُ بعيدا.."
    -ابتسمت امي ، ولم تُعلٌق على كلامي ، احسستُ انها تنظر في الافق البعيد .. كأنها تتعلّق به ..تتناغم مع شيء ما .!
    - ماذا يُمكنني فعله يا أحمد يومها كانتْ نفسي مكلومة بأعزّ ما عند زوجي ، فهل يُعقل أن يكون هو صَريعاً فيصرع ما تركه معه .؟!
    نظرتُ إلى أمي ، فوجدتها وهي تُلوح رأسها أسفاً وندماً غليظاً القلب ، كأنما فظٌ نزل بها فجأة ، ثمّ نظرتْ إليّ بقوة ، واهتزّت مع كل حرف ، كمْ تمنّى أباك أن تكبر لتشهد على كل شيء ، كانت أُمْنِيّته تربيتك أحسن تربية ، على أخلاقيات الرجولة والعزّة والشرف وقيمٌ فاضلة كانت تلكم في مُجملها مدرسة للشموخ .. فأؤلئك الرجال الذينَ غادروا قريتنا وأهلها كانوا يحملون مشاعل القيمِ والفضائل والعزّة ، وبمغادرتهم لم يتبّقى شيء من ريحة قِيَمهم إلا بعضاً من قيمٍ مُتهالكة ، ذهبتْ لتنتحر في عُرف معاني القوام الرغيد الذي لا يَحمل في أُسّه معانيَ صادقة بذات القيَمْ العالية ..غير كلام كثُر رُوّاده وتعالتْ أصوات مَنْظُورةً بلا وازع من قِيَمٍ فاضلة غير الدَسّ في الجيوب . وشبْع البطون ، وبهكذا قِيَم بَقِينا بلا أهليّة في التصرّف في ما نَمْلك إطلاقاً.. فتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الفردية ، أمرٌ مُتّبع وقانوني في مشروعٍ الوطنية السياحي ، وكثيراً ما تداخلتْ مصالحه في جيب المُخلصون كونه مشروعاً كبيراً يحمل ، كومةً من عُري صارخ ، باتتْ كوماته في درجات تأخذ في التصاعد والأخرى ذي التقليدية تأخذ في الانحسار ، وحينها وقعْنا في مظنة الاسترشاد بغيرنا تربّصاً منهم وعداءً دفيناً يُخفونه في صدورهم ، بُغضاً أقبح من وجوههم التي تشكّلت كموجات الصقيع والبَرد الذي ابتلوا به ، من بعْد أنْ نصبوا شِرك العداء البغيض ، منذ بعيدٍ على أهل هذه القرية التي كانوا يَتناهَوْن بينهم عن كل أمر مُريب .. فلا تهتم أنظمتهم بجذورنا ولا تلتفتْ أعينهم إلاّ إلى مصالحهم ، ولا يُعيرون قضايانا اهتماماً ولا يجدون لنا استحقاقنا .. رِجَالُنا ، يا بُني، هم من عاش في قريتنا قديماً ونحن من نعيش عليها حديثاً ، ومصيرنا آخذٌ إلى الزوال إن لم نهتم بمصيرنا أو يلتفت رجل مِنّا إلى أحوالنا .. وأما أؤلئك المأجورون بالحق السياحي ، هُم أصحاب عَرْبدة استخفّوا بأحوالنا فصاروا عبدة للمال .. وما أباكَ إلا فقير ، بائس لا حول له ولا قوة ولا ظَهْرٍ يحتمي إليه ، فمن لا يُسْنده ظَهْر ، يسقط وهو يتراجع إلى الوراء .. وقِسْ هذا في كل شيء ..! سكتت أمي ثم أردفت بعد تنهيدة عميقة :
    - يجب عليك ـ يا بُني ـ أن تلتزم بالحس الوطني حتى لو كنت مقهوراً أو مظلوماً أو مكلوماً ، فها أنت لا أباً لك اليومَ وغداً لا أم لك أيضاً ..! كان أبوك مُتمسكاً بالمكان ، وقد رفض أكثر من مرّة ، فكلما أُخْرج منها عاد إليها في الليلة التالية .. حتى جاء حُكماء القرية المأجورين ، لإقناع أبيك .. وبعدها بقيَ في صَمْته حتى نهايته المشئومة هذه التي تراها ، وحين نسألهم عن التعويض النقدي أو البديل ، كانت الإجابة حاضرة :
    - يَلْزمكم أن تَخْلو العقار أولاً " الدار " ثم يأتيكم " المالْ " تالياً ، لكني حين اجلس مع أبيك ، وأفهمه ، ان يُوكّل الأمر لله وحده ، يقوم من مكانه ، وتنعقد جبينه ويَصْفرّ وجهه ويتلوّن بلون الغضبْ القاهر ، يتصاعد الدم إلى قمّة رأسه بأثر الضغط النفسي ، فلا يجرؤ بكلمة واحدة نظراً للحالة التي يعيشها من يومها ، فقط يُراوحْ مكانه بين الحقْل وزريبة الغنمْ .! ويحتضن ( الْجِدِي ) ذكر صِغار المعْز ، يُؤكد لي مرات كثيرة أنه لكَ وحدك لا يُشاركك احد فيه ، ويمسح بيده على ( الحَمَل ) أنثى صغار الضأنِ والتي أهداها من قبْل لأختك الصغيرة في يوم عيد .. يُمسك بالأوتاد ، ويُوثّق رباطها .. كأنه يُوطّد العلاقة الأزلية بها ، يتوسّل إليها كيْ لا تُبقيه مُشرّداً أو تتخلّى عنه ..!
    قَبِل البعض بشُروط الإلزام بغير رضاً وقام بإخلاء البيوت والدّور والأعشاش والمزارع والبساتين المُثمرة والزرائب الرعوية والحدائق الغَنّاء ، وبعْد أن سَلّموا وثائقهم ، بقوا في قائمة الانتظار إلى حين تأتي خُطْوة تعويضهم " نقداً أو سُكنى " كيف شاءتْ أقدارهم ، فلا حقّ جدليّ لمن نُزعتْ مَلْكية أمواله ان يعود إليها ثانيةً ، أوْ يأتي بمرّرات تالية أو حتى يتفوّه بكلمة خارجة عن قانون المصلحة الوطنية وإلا حُرم منها وعاش بائساً بلا موطن ومُحبطاً بلا مصلحة .. قال احد الرجال الذين كانوا مع أبي كأنه يُخاطب نفسه ، وأخذ يهزّ رأسه ، وضلّ صامتاً يُقلّب كفّيه :
    -لقد خسرت الكثير وإن خسرتُ البيت والبُستان والارض الفضاء ، شيء عادي ، مقابل الوطنية ومصالحها ، كنتُ انوي أن أجعلها زريبة لحيواناتي التي صارت الآن إلى 20 راس مع أغنام أختي ، لانّ بلدية منطقتهم مَنعتها من تربية الحيوانات حتى ولو في زريبة ذلك لان المنطقة برمّتها قد صُنفتْ من قبل عامنا هذا من القُرى الريفية ، نظراً لما تتمتّع به القرية من مناخٍ ريفي على مدار السنة ومناظر خلاّبة تجذب السائحين إليها وزائروها من مختلف الثقافات كما أنّ تمسّك أهلها بعادات وتقاليد قديمة أضحت اليوم في عين الموروث العالمي الجديد ، زد على ذلك فإنّ المنظمات الدولية سجّلتْها في قائمة التراث العالمي بمعنى آخر أنها ستكون مُستقبلاً ذات صِبْغةٍ سياحية عالمية لا يحقّ لأهلها أن يُضيفوا على مَبانيها ولو طوبة واحدة ، أو أن يستمتعوا بجمالها .. وسارعت هذه المنظمات ذات صبغة المحافظة على التراث العالمي ، بأنْ تسنّ القوانين المُنظمة للحفاظ على وِجْهتها الصحيحة ، مِمّا دفع بالمسئولين أن يرفعوا أيديهم عن أي قرارٍ يُتّخذ بشأنها ، لأنها أصبحت ذي صِبْغة تُراثية عالمية ، وخرجت من طور محلّيتنا ، هذا ما قالوه وبالحرف الواحد ، حتى لو أدّى ذلك إلى خُروجكم مِنْها .. فتطبيق رغبة المنظمات العالمية خيرٌ من أهلنا الذين لا يتحلّون بوعي المَسْؤولية ومنافعنا المُشتركة خيرٌ وأبقى من مُجرّد زرائبَ مَبْثوثة وبيئةٍ خالية من الصّحة .
    قال المهموس إليه ذي شُعيرات معدودة ، مُتفرقة كما لو كان رأسه قد خلا منها :
    - نعم ، قد سمعت هذا من احد أقاربي ، فقد اعتبرتها حيواناتنا كما لو كانتْ سائبة وإنْ كانت في زريبتها ، وحُجّتهم بقاء القرية على بيئة نظيفة ، خالية من أهلها لتبقى أكثر بياضاً من قلوبهم المكسورة فالمنطقة ذات وِجْهة عالمية ولا يُمكن التفريط فيها .
    قال الهامس ، ذي أنف فطسةٌ انخفضتْ قصبتها :
    -نعم والله ، حتى أغنام فطومة " اختي " صارتْ من حق البيئة .. بدا وكأنه في تعجّب ، ثم أكمل ، وحين علمتُ بالأمر .. وكأنه لم يستطع إكمال حديثه ، تلمس بيده حنجرته كأنه صوته صار ثقيلاً .. سكت بُرهة ، كأنّه غَصّ بشيء .. ثمّ لوّح بيده وقلّب راحتاها في ضَعْف ، غريبة والله غريبة .. أغنام فطومة صارتْ عدوة للبيئة وإخراجها من زِرِيْبتها تكون صديقة للمصالح الوطنية .؟! دمعت عينه ، سكت ثم أردف : أنا واثقٌ بأنها شديدة ، قوية المِراس ..!؟ولكن ماذا تظنّ هيَ فاعلة .؟إذا تخلّى المأجورين عنها ..؟!
    قال المهموس إليه وقد مطّ بوزه بعدم رضاً :
    - لاشيء .
    فأكمل الهامس حديثه :
    - لم تفعل شيء حقاً ، سوى أنها غمغمت بشيء من القهْر ، ثمّ صكّت وَجْهها وصاحت وَولْوَلت ثمّ توعدت ، ولكن توّعدها لم يُثمر بشيء ولم يأتي بنتيجة ، سوى انه لمْ يكترث إلى مطالبها احد .؟! حثتْ التّراب على وجوههم .. كان أكثر شيء يُمكن أن تفعله ـ وأيضاً ـ لم يهتم بها احد ، حتى الأقربين تخّلوا عنها ، وحين وصلتُ إلى عندها ، كان موقفها لا يُوصف ، موقف بائس ، مُحبط ، تناغمَ مع الذلّ وبسط القهْر نُفوذه في نفسها وبلغ الضّيْق مَبْلغاً ، فحبستْ أنفاسها ، ولم تخرج منها ، حتى غادرتنا روحها الطاهرة . وعُدّت كأول شهيدة بالقرية.! بَعْدها ابتأستْ القرية يا حمود كثيراً ، شُحّت مياهها ، حتى اعتقد الأهالي أنها نقمة السماء قد حلّت عليها ..! تاهتْ عيناه وهما تفيضان، عندها استغرقته حالة من التفكير والذكرى ، قليلاً من الصمت بدا عليه ولو كان قاسياً .. سحبَ قدميه المُنغرزة في التلّ ذي الرملية المشوب بالحجارة غير الخشنة ، واخذ يمشي ، فتناثرت حَبّات الرمل الصغيرة الصلبة وهي تنزلق من بين أصابع رجليه وحوافّ قدميه .. وتمتم ، أحبك يا قريتي رغم قِلّة معرفة الآخرون بك .! فهل زرائبك وطُرقاتك تضر بالبيئة ، لم تكنْ نيّة فطومة ولا حتى في نيّتي قبْلها أن اخرج منك ، حتى لو جرّدوني من ملابسي وعُرّيت أخلاقي فيك .. كما فعلوا بفطومة ماتتْ دونك .. حتى بحّ صوتها وتقطّعت أَحْبالها ، ليس لشيء أكثر من انْ يُريدوا ان يُخرجوها منها ، فقد عزمتْ في جدّية ، حتى خرجت منها ميّتة وليتهم تركوها فتدفن في مقبرة القرية بل سمحوا بدفنها في سفح جبلٍ ، كي لا يصل إليها احد ، أو لا تكون قِبلة الحريصون على الاقتداء بها .. أو السّيْر على أثرها.!
    قال ذي قصبة الأنف الفطسة للمسؤول يومئذٍ :
    - لا يُمكن أن يكون خروجنا من سُكْنانا هذه إلى سُكنى أقلّ منها أو أن تُفرّقوننا ، نحن نريد ان نكون لُحمة واحدة ، أسرة واحدة لا أُسَر شتّى ، أُسرة واحدة جمعتنا قريتنا مُذ نعومة أظفارنا..؟
    فجاء رد المسؤول ، قاطعاً صارماً ، فقطّع أرحام قريتنا وفرّقها تفريقاً ، ومزّق أواصرهم تمزيقاً ، فتكلّم بلهجة غليظةٍ كان لها بريقاً وطنياً ، وَومْضةٍ من مصلحةٍ جاذبةٍ :
    - لا تُمَنُّوا أنفسكم كثيراً، نحن شركة مُنفذة ، لا دخل لنا في شيء تختلفون فيه مع أهليّتكم ومُواطنتكم الكريمة ، فكما قِيْل لنا ، قِيْل لكم .. لا تختلفوا معنا ولا نختلف معكم .. لكنا نستطيع أن نجزم أن الدار التي سوف تستلمونها كبديل عن دُوركم الأُوَل .. أن الاخرى تصلح إلى أكثر من رُؤية مُستقبلية ، واحمدوا الله على النّعمة ، فكُنتم في بيوتٍ قديمة مُهشمة جُدرانها ومُحَطّمة قوائمها ، بعضها خربةٌ ، وكثيرهُا لا أساسات تقوم عليها ، ولا قواعد راسخة تعتمد عليها ، بناؤها تمّ عشوائياً .. غير مُستوفٍ لأهلية البناء والعِمَارة الصحيحة ، مُعرّضة للكوارث البيئية .. مساكنٌ القرية المُختارة هذه ، غير تلك التي تمّ اختيارها عالمياً ، فهذه لا تحتمل قوة الزلازل والعالم اليومَ يشهد مُتغيّرات حتى في هزاته الأرضية وغالباً ما تُصَاحبها انهيارات سطحية .. لا ترقى إلى ما يُريده المسئولين ليسكنوكم في أمانٍ وعزة .. !! انتبهوا ، تلك هيَ نظرة المسئولين أكبر من نظرتكم ، فانتم تنظرون إلى مَصْلحتكم وهُمْ ينظرونَ بعين الوطنية ..! والتفت هذا المسؤول بناظريه صَوْبي وغرز نظرته في عيني:
    - ما بالَ أباكَ مُزمجراً كالأسد .؟
    لم اُعطيه بلاً كبيراً ضغطتُ على بوزي الاسفل ، وكأنّ بُوزي الاعلى قد خبّأه ، وانتفختْ وجناتيَ ، وبانَ صدري غيضاً ، وكلماتٌ بحّت بها حَلْقي .. التفتُ عن يميني ثم اتبعتها بنظرة أخرى بشمالي .. بيوتنا القديمة اقرب إلى أمكنةٍ صَعْبة في عالمٍ يموج بالتجديد ، لكنّهم ـ حقّاً ، ابعدونا عن مهنتنا التقليدية والحرفية ، فقلتُ بقوة كمنْ يعتدّ بنفسه :
    - ولكنّكم انتم تُجردوننا من مهنتنا . فماذا نأكل بعدها .؟ وكيف نعيش .؟ انبقى نلتقط معادنَ من شوارعكم النظيفة ..؟! لتنظروا إلينا بنظرتكم الدّونيّة .؟( في هذه اللحظة ، مرّ علي شريط بعض من ذوي الحاجة والفاقة ، وفي يده يحمل كيسٌ طُبعت عليها خاتم الشركة ، يتلقط عُلبة فارغة للبيبسي وديو وكوكاكولا ، يدعسها برجله ، كانه ينتقمْ منها ، فتدمع بشيء يسيل من بطنها تُنبئ انها لتوّها قد فرغَ منها احد القائمين على المشروع في شارعهم البحري الجديد .. قلت في نفسي وكأنّ تحاورٍ مثل امامي .. لا خوفٌ عليك يا ـ أحمد ـ إن بدا مصيرك مثل مصيرهُم ، فانت لستَ بافضل ممن سبقك .. فإنْ كان الموت خيرٌ لمنْ سبقك ، فعسى تكون وقفتك هذه في وجه عَربدة المشاريع التي تُقوّض تُراثيات اهلك خير مُحرّضٍ لغيرك ، للوقوف امام هجمتهم الشرسة الخالية من القِيَم الادبية لصون تُراثٍ عميقٍ ومُهم لهذا البد الغني بتراث قلّ ان تجده في بُلدان غيرها ، ففي الاثر نقرأ " ويأكلون التّراث أكلاً لمّا . .!!" إنهم هُم المعنيون حقاً يأكلون ميراث ابيك وجدّك وجدّ من جدّ منهم في بقائه تراثاً قائماً .. فلا عيبَ ابداً ان يدكّون أرضكَ دكّاً بغير مُبالاةٍ ولا إكتراثٍ ، ففي الحياة تجد كثيرٌ مما ابْتُليَ به الانسان في هذا الزّمن الصّعب ، الذي اضحى لا يُفرّق فيه بين الحلال والحرام ، يجمع بينهما بشدّة الرغبة والزيادة ، دون الالتفات إلى مَعيّة الله الذي اكرمه ونعّمه وعزّزه .. ولمْ يزل يدّعي القُنوط ، ولسان حاله وبصريح العبارة ، ربي أهانني وأذلّني ، يتشكّى من ضَيق العيش ويتبرّم لأنه لم يَبْسطها عليه بسطاً بلا تعب ولا كدٍّ ..! فإياك ، إياك، يا أحمد ، ان تكون مِثْلهم ، فأبيك لم يجمع بين الحلال والحرام في آنٍ واحدٍ .فَسِرْ على قِيَمه الادبية التي تحضّ على بقاء فِعْل الرجال ليكونوا على حِرْصٍ كبيرٍ بلا شَرهٍ على من اكرمهم وعزّهم حتى ينعم الجميع بمنفعة السّماء .. رفعت رأسي بعنفوان وكأني اخاطب المسؤول :
    - إخراجنا من قريتنا مُحرّم عليكم لانه فُرضَ إجبارياً ، ولن يرضىَ أحداً عليكم ..! ومن هذا المقام ، أعرب مُعارضتي القائمة على الصّمت ، وأشرتُ بأصبعي نحو أبي ، فأنا قد تعلّمت من ذلك الكثير ، فالصّمت خير والسُّكوت إيمان عميق .. ومن مات يوماً في سبيل ماله وعرضه سيعود ضميره الحيّ إلى أنفسٌ أخرى وستقضّ شكيمتهم مَضاجعكم وسَتُقلق ضمائركم الميّتة حتى لو كان طيفاً مُتخيّلاً ..!
    رحت في غفوةٍ كبيرة وأنا في أحضانها ، وسّدتني بذراعها الأيمن .

    للقصة بقية
    الجزء الخامس ..
    وحينَ كبرتُ علمت أن أبي رفض بجرأة وشجاعة وندّد وشجب واعتصم مُحتجاً مع بقية أهالي القرية التي ظلموها تحت حُجة المصلحة الوطنية ، أخبرني احدهم أن أبي صرخ بأعلى صوته أمام جمهرة من المسئولين ، تجمعوا لتنفيذ عملية تهشيم البيت واقتلاع أساساته ، وسحق المزرعة والاستيلاء عليها بموجب نزع الملكية للمصلحة الوطنية ، لا يُمكننا الخروج من قريتنا ما لم نجد قريةً أخرى مُقامةً قريبة منها ، نحن لا مَعاش لنا غير البحر .. أيها الناس وعوا ، اسمعوا .. " ثم كررها مرة أخرى ، لا يُمكن أن يخرج أحدُ من داره إلا إذا وجدتم له داراً قريبة منها هذا هو آخر ثقة الأهالي بكم .. تسمعونا ، نسمعكم ، تفعلوا نرفضكم ..غير هذا لا كلام لدينا ولا مُزايدة ولن نُبدّل كلامنا .. " كأنّ لا أحد يسمع ولا أحد يُجيب .. لم يُعتدّ برأي أبي وصلابته ولم يُبالي به أحد ، لأنه لم يكن قد استند على ظهر كبير ـ كما قالتْ أمي ـ وعلى ضوء عزْم القائمون على المصلحة الوطنية ، تواطأ الكثيرون وتنازلوا إجبارياً ، فلا خيار لهم غيره استسلاماً إلى مُبررات تغليب المصلحة الوطنية على الفردية ، التي انتشرتْ عبر ألسنةٍ حِداد ، شُقّت على فُقراء القرية وأُمِرُوا بتنفيذها .. لم يزلْ أبي على قناعة بتغيير داره وقبول تعويض عن حديقته الغنّاء ومزرعة النخيل الباسقة ، لم يكن على ثقة بهذا المُخطط الجديد ، فقد أستطاع توصل فكرة جديدة إلى أفهام أهالي القرية ، وكان تساؤله ومعه ثُلّة من الناس وكنت أنا الصغير من بينهم ، لماذا يقوم المسئولون بوضع مُخطط دون الرجوع إلينا من قبل أن يُعلن عن نزع ملكية أملاكنا ، حتى لو كانت غنم في زريبةٍ ، فعليك أن لا تدخل عليها إلا بهدوء لئلاّ تُزعجها ، فما بال هؤلاء يروعوننا في قريتنا الآمنة ، أليس الترويع مُحرم ديناً وقانوناً .. ماذا تعني المسافة كبيرة التي تبعدنا عن قريتنا التي كُنّا عليها ، قريتنا التي نشأنا عليها وترعرعنا كما ترعرعت صُوص الدجاج حتى يقضيَ الله أمرهُ ، هنيئاً مريئاً ذائقاً أُكلها ولذيذ طعمها أو تموت عُنوة بفعلٍ بغيض واعتداء سافرٍ مُريب من هوامٍ عارضٍ عليها .. تنفستُ بِعُمْقٍ في داخلي حتى لو كان المُخطط الجديد يتناسب وظروف بيئةٍ مكانية تكون جميلة لساكنيها ، كما يُروّج لها دعاية وإعلاماً . سألت أمي يومها ، لماذا لم يُوافق أبي في ذلك الوقت كحال بقيّة الذين ارتضوا الذلّ والهوان وترك دارهُ ومزرعته وحديقته بغير رجعة واكتفى بالتعويض إلى أمدٍ مُسمّى ، أليس ذلك خطأً في حق المَصْلحة الوطنية .!؟ فأجابتْ أمي بغضب : لا يا ـ ابني ـ إياك وقد حشر احدهم في ذاكرتك هذا الرأي غير الصحيح ، لا ، لم يُوافق أحداً من الأهالي .. لكن ما حدث من زعزعة ، لم يُعْرف لها مَكانة بين أهالي القرية من قبْل .! وبقت آراؤهم مُشتّتة .. ونفسية بعضهم مُحبطة ، بين قابلة وعاصية ، ارتدّت بعضها عن طمع في المال لم يُحكموا مصلحة أهالي القرية بل حكموا مصلحة ورغبة القائمون على تحطيمهم وتهميشهم دورهم وطمس معالم القرية ، واسترخاص موروث أجدادهم وآبائهم بثمنٍ بخسٍ ، ودراهم معدودة ، تعدّت على حُقولهم وعلى بساتينهم وعلى تلك السبلة التي كانت مُثلاً للقِيَم العالية ، وسُوقاً غالياً لنظم الشّعر والقصص التي لا تزال نتداولها بيننا بكل الحُب والألفة ، ذلك لأنها أوصلتنا إلى حقائق لم نكن لنعرفها لولا دوّنتها بوضوح وعلمنا من خلالها ومن يومئذٍ من الذي أغرته أهواءه علينا .. ومن الذي تغنّى بقيمه وموروثه ، فأبيك ـ يا بُنيّ ـ قد تمسّك بقوة لأنه كان يَعدّ نفسه شراع الأهالي وبدونه لا يَبْحرون ، أسمعت يُمكن أن تمشي بلا رجْليْن ، أو تشوف بلا عينين هكذا كان أبوك بالنسبة للأهالي والقرية أجمعين .. بكيتُ حينَ تذكرتُ أبي وانه كان مقداماً وسيداً كبيراً في قريتنا التي بُدّلتْ وقال لأبيتنّ على هذه البقعة حتى لو سُوّيتْ بالتراب ..!؟ بنفسي حاولت أن أثنيه عن رأيه وان يقتنع ، لكنه كان يرفض.. ومبررّه في ذلك ، أنّ أباكَ بحار ويَمْتهن الصيد كحرفةٍ تقليدية ، توارثها عن أبيه وجده ، ومنذ طفولته رغم أنّه لا يَملك قارب خاص به بل كان يعمل بأجر ، لكنه وحسب معرفتي ، يعلمْ أن هذا المُخطط ذاهب إلى فسادٍ وليس إلى إصلاح ، هذا المشروع بتمويل كُبريات دول غنية ، تختلف عن بيئتنا وحياتنا كاملةً ، فما بالها تأتينا لتصب هذه الأموال الضخمة ، بدلاً أن تصرفها على دُولها ، من أجل ماذا ؟! ضعي تحتها ألف خط احمر أو ازرق .! هكذا كان يقول لي بعظمة لسانه ..كثيراً ما كان يُردد عبارته ، سوف تتذكرين كلامي يا فاطمة إن بقينا ..!! وبقيت صامته انتظر ما سوف تفرجه لنا الأيام ، فجأة ، انتشر خبر توقّف المشروع وعادت السُّكنى كما عاد الأهالي إلى طبيعة أعمالهم ، حاول أبوك البحث عن قارب له مُستقل فلم يستطع .. فالمادّة اللعينة حالتْ دون أنْ يرتقي إلى قارب خاص به ، فأُسّ حُرفته ومهنته التي اعتمرها منذ باكورة صِباه إن لم يكن قد رضعها مع أول جرعة حليب من صدر أمه ، هي " صيد البحر " لا غيرها ، كحال أبناء قريتنا الساحلية الأولين وما بقي منهم من الآخرين ومن سيتقبّلها من اللاحقين ، والسؤال الذي يتمسّك به أبيك هو " هل يُعقل أن أبتعد عن حرفتي التقليدية التي توارثتها ومهنتي التي لا أجيد غيرها ، لمسافة أكثر من 15 كم وأنا الذي له الصيت بين الناس الذي لا يعرف الكلل ولا الملل عن مخر البحر جيئة وذهاباً ، طولاً وعرضاً ، ليلاً ونهاراً.. " هززتُ رأسي ، حقاً ، أنا معه ، كان هذا القرار بمثابة صدمة كبيرة لأبي ، فمن لا حُرفة له غيرها ، فماذا يُمكن أن يفعل حين يفقدَ حُرفته التي احترفها منذ كان صبياً ورضع مِهْنتها منذ أن كان وليداً وتوارثها أباً عن جَد إلى أن كان غِراً وشيبةً .! فهل يُعقل أن يترك مهنة أجداده تموت وهو باقياً لا يصنع شيئاً ولو من باب الوقفة ، غير المُتكئة على مَسند أو ظهر كما قلتِ ، واستمرّت أمي في سرد حكايتها .. وبَعد رفضٍ قاطع وقرار صارمٍ وإصرارٍ حازم ، وبعد أن حيّ المشروع مرة أخرى ، سمحت له الجهة القائمة على المشروع الساحلي السياحي ، بالبقاء بالقرب من مُجمّع حاويات القمامة والمزابل القذرة ، لإحدى القُرى المُجاورة التي لم تَطالها يد المشروع الكبير ، مبانيها ولم تُبصرها جهة التخطيط بعينها ، فرضيَ أبيك على يكون قريباً من البحر ، لا يُفارقه ، وحده من رضي دون غيره ، مُتمسكاً بقراره ، فالبحر مصدر بقائه على قيد الحياة ، لا يستطيع مغادرته أو أن يبتعد عنه ، إنه يرى وجه أبيه وجدّه على سطح البحر ، وعند كل موجة تتكَسّر يرى خلالها ابتساماتهم تشدّه وتثبّه ، فهي مصدر ثقته ، ومنبع موقفه التي ثبتَ عليه ـ هكذا كان يقول لي ـ كما تمسّك بقوة دفاعه التي احتجّ بها لدى الجهة المختصة بشؤون التخطيط السكاني القائمة على المشروع الساحلي السياحي .. وبعد مدة ليستْ بالطويلة ، علمَ أبيك أنّ بيتنا الأول الذي أخرجتنا منه الجهات ذات التخطيط السكاني ، والتي أمرتْ بتغليب المَصْلحة الوطنية ، على المصلحة الفردية والتي بموجبها نُزعت صكّ حقّ التملّك للبيت بقوة القانون ، يُقام مكانه مَلهى للعاهرات بعد اكتمال عِمارته الجديدة ، وصار ملجأ للراقصات ومكان تفيض فيه السعرات الماجنة من كل حدب وصوب، كما صار أيضاً قُبلة المُتحضرين الفاسدين.. وحينَ تأكّد أبيك من صحة الخبر كانتْ له ردة فِعْل نفسيّة فتغيرتْ بسببها نزعاته الداخلية ، ولمْ يستطع يُقاوم مَوجات الغضب والضيق والحنق الشديد التي اكتظّت به نفسه ، وما كتمه منذ سنين من القهر والقسوة ، أفرزتها هذه الحالة السوداوية الشديدة ، على قلبه وعصفت بعقله وأخذت منه كُل مأخذ ، وحدّثته نفسها بأخبارها ، مُتفرقة ومبثوثة ، تصطدم بشتّى المآرب وبجمع من علوم تنزع منه أفكار بيضاء كبياض قلبه وصفاء نفسه ، هكذا كان يقول ، ألم اقل لكِ يوماً ، أننا سائرون إلى فساد ..!! كيف تقبل مواطنتي التي اعتز بها أن تبقيني وأسرتي على وضع غير مُستقر ، وعلى كنفٍ فيه سوداويّة قاتمة ، حاولت قد ما استطعت ، أن أُهدّي نفسه .. أن يهجع قليلاً ، وليترك ذلك الآن ، لكنه أبَى ورفض ، فعصف به ذلك الهوس إلى حالة عصيبة أشبهَ بموج البحر حين تتلاطم في بعضها من أثر ريح عاصف .. انشلّت ذاكرته ، وصار عقله هشّاً رخواً لا تفكير يرتكز عليه .. لا يعرف الداخل من الخارج ، يأكل ويشرب بما يُقدّم له ، وينام قدّام البيت كأنه يحرسه ..! توقفت أمي عن الكلام ، وبدتا عينيها تفيض من الدمع ، تسيح من على وجنتيها ، تلوّن وجهها وغدا أحمراً كبسرة الزّام ، قبّلتها واحتضنتني، وذرفت كثيراً من دموع ، لا أجيد فهمها كثيراً ، عشت وأمي ، أتقاسم معها ، رغيف الخبز وأتذكر أنها كانت تأخذني إلى حاوية القمامة تبحث عن فتات رغيف وأكل لا تحتاجه البيوت الكبيرة فنأكل ما بقيَ منها .. وبقيتْ تنهيدتها من يومئذٍ تُذكّرني بهذه العبارة إذا ما التفتت صوبَ وجْهة بيتنا الأول " آآه يا وطني، قتلت بَعلي وستقتلني ومن بقيَ معي وحجتك المصلحة الوطنية، بكروشها المُمدّدة وخوائها ذي المفسدة .!"وحين تقدّم العُمر بأمي، أُصيبت بأمراض شتى ، وأنا ما زلتُ في نشأتي الأولى ، وعلى غرارها تحوّلت حياتي ، كأنّما وُلدت وعلى جبيني نزعة الكدّ وقرافة الكدح .. كأني من المَغضوب عليهم ، أو من الضالّين على هذه الحياة .. تخايلتُ كل هذه الحيوات الشاقة التي لم تجعلني ابتسم إلا كما يبتسم الحمار بنهيقه ، فَضُرب مثلاً يُتلى حتى قيام الساعة ، هكذا هي آدميتي ، حياةً صاخبة مليئة بالمشقّات والمُنغّصات، نهارٌ مُثقلٌ بالكدّ والكدح و ليلاً يؤوب بالشقاء مقهوراً ، وددتُ لو أخلد إلى النوم فلا أعلم شيئاً حتى قيام ساعتي ، لكن مقاديرها تجري حولي بطريقة مُباغته لا أعلمها ،لا أفقهَ صيرورتها ولا أفهم بُعدها ولا أدرك مَغزاها ، كإنسان بَلِهٌ ، يعيش يومه ويقتات رزقه المقسوم ولا يزيد .!
    للقصة بقية .




    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


  9. #49
    نائب المشرف العام
    الصورة الرمزية الروح
    الحالة : الروح غير متصل
    رقم العضوية : 4058
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : في عالم خيالي
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 9,299
    مقالات المدونة
    3
    التقييم : 195
    Array
    Rep Power : 50
    Array

    Icona9


    تزداد الأحداث حزنــــآ ,, وتبدو ملامحها شاحبة أكثر من ذي قبل ~ وكأنها تقوقعت في ركن مظلم ,, لا منفذ للنور اليه ..!!
    قرأت الأحداث ~ آلمني حين علمت أن البيت البسيط ~ وبقعة الطهر تلك ,, تحولت لمحطة يتسامر فيها شياطين الأنس والجن ..!!
    ..
    مررت على الأحداث وكأن أحد يقصها لي ,, استمتع بها.. إلا أن وصلت لهذه الفقره..


    كأني من المَغضوب عليهم ، أو من الضالّين على هذه الحياة .. تخايلتُ كل هذه الحيوات الشاقة التي لم تجعلني ابتسم إلا كما يبتسم الحمار بنهيقه ، فَضُرب مثلاً يُتلى حتى قيام الساعة ، هكذا هي آدميتي ، حياةً صاخبة مليئة بالمشقّات والمُنغّصات، نهارٌ مُثقلٌ بالكدّ والكدح و ليلاً يؤوب بالشقاء مقهوراً ، وددتُ لو أخلد إلى النوم فلا أعلم شيئاً حتى قيام ساعتي ، لكن مقاديرها تجري حولي بطريقة مُباغته لا أعلمها ،لا أفقهَ صيرورتها ولا أفهم بُعدها ولا أدرك مَغزاها ، كإنسان بَلِهٌ ، يعيش يومه ويقتات رزقه المقسوم ولا يزيد .!

    شعرت بالرغبة لأعيد قراءتها عدة مرات .. وكأن سر الجمال في الجزء الخامس ,, مخبأ فيها ..!!
    بحق أبدعت ~ سلمت يمينك سيدي الكريم ..

    أممم الآن أود أن استوضح أمر منك ~
    في قولك ..
    تشوف بلا عينين ~
    هي يصح أن نقول تشوف ~ أليس قول ترى هو الأدق ..؟

    وفي موضع آخر قولك ..
    وينام قدّام البيت..
    أيصح قول ,, قدّام ,, بدلا من قول أمام ..؟

    بإنتظار البقية الباقية ~^^

    وشكرا بإتساع الأفق لفيض كرمك الأدبي ~ و عذوبة حروفك.
    حفظك ربي و اسعدك ..




    التعديل الأخير تم بواسطة الروح ; 20-11-11 الساعة 05:40 PM



  10. #50
    عضو فعّال
    الصورة الرمزية المرتاح
    الحالة : المرتاح غير متصل
    رقم العضوية : 6211
    تاريخ التسجيل : Aug 2010
    الدولة : سلطنة عُمان
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 725
    مقالات المدونة
    4
    التقييم : 20
    Array
    Rep Power : 14
    Array

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الروح مشاهدة المشاركة
    تزداد الأحداث حزنــــآ ,, وتبدو ملامحها شاحبة أكثر من ذي قبل ~ وكأنها تقوقعت في ركن مظلم ,, لا منفذ للنور اليه ..!!
    قرأت الأحداث ~ آلمني حين علمت أن البيت البسيط ~ وبقعة الطهر تلك ,, تحولت لمحطة يتسامر فيها شياطين الأنس والجن ..!!
    ..
    مررت على الأحداث وكأن أحد يقصها لي ,, استمتع بها.. إلا أن وصلت لهذه الفقره..


    كأني من المَغضوب عليهم ، أو من الضالّين على هذه الحياة .. تخايلتُ كل هذه الحيوات الشاقة التي لم تجعلني ابتسم إلا كما يبتسم الحمار بنهيقه ، فَضُرب مثلاً يُتلى حتى قيام الساعة ، هكذا هي آدميتي ، حياةً صاخبة مليئة بالمشقّات والمُنغّصات، نهارٌ مُثقلٌ بالكدّ والكدح و ليلاً يؤوب بالشقاء مقهوراً ، وددتُ لو أخلد إلى النوم فلا أعلم شيئاً حتى قيام ساعتي ، لكن مقاديرها تجري حولي بطريقة مُباغته لا أعلمها ،لا أفقهَ صيرورتها ولا أفهم بُعدها ولا أدرك مَغزاها ، كإنسان بَلِهٌ ، يعيش يومه ويقتات رزقه المقسوم ولا يزيد .!

    شعرت بالرغبة لأعيد قراءتها عدة مرات .. وكأن سر الجمال في الجزء الخامس ,, مخبأ فيها ..!!
    بحق أبدعت ~ سلمت يمينك سيدي الكريم ..

    أممم الآن أود أن استوضح أمر منك ~
    في قولك ..
    تشوف بلا عينين ~
    هي يصح أن نقول تشوف ~ أليس قول ترى هو الأدق ..؟

    وفي موضع آخر قولك ..
    وينام قدّام البيت..
    أيصح قول ,, قدّام ,, بدلا من قول أمام ..؟

    بإنتظار البقية الباقية ~^^

    وشكرا بإتساع الأفق لفيض كرمك الأدبي ~ و عذوبة حروفك.
    حفظك ربي و اسعدك ..

    السلام عليكم ..
    اشكرك جزيل الشكر اللطيف النابع من قلب مرتاح شفيف .. مُستذكراً آهاته لا يتّبع طريق عنيف .. وها انا ذا بينكم طيوبٌ ، وعلى جنباتكم حبوبٌ .. افتح لكم مسارات تتعاظم ، وحروف تتقادم . بفعل الزمن ، على نشاطٍ كبير ، من لدن إنسان خبير ، في القصص والنثر وعلى تِلْو ظروف القدم .. سائلاً المولى ان يتقبل ، ويجعلني قلم مُثير وفاضل مُتعلّم ..
    فكل ما في الامر لا اجد إلا رُوح .. وحدها من يكتب وبدلوها تنوح . واتساءل اليس هناك قائل ، وغيرها لا فاهم ولا عامل .. إنني انشد التعليم والتثقيف . والمعرفة تزيد عند كل شفيف . من خلال تتبع الكتابة ، داعياً نفسي إلى الاصابة .. ومُكللاً بنجاحات بلا رتابة ، لعلّ في الجِدّ معلمْ ، يسير بلا مَغْرم .. فوالله لا زلت بطيئاً وفي العُمر صغيراً ، انقش أحرفي بنور سعيي ، مُجتهداً بفضل تعبي .. ليلاً و نهاراً ، صباحاً ومساءً ، اقرأ الحرف وأخبأه .. وعن الاعين بعيداً لئن تحسده .. فتذهب ريحي ولا تبقى .. وتكون افهامي لا تدري .. وبعلم الله كُتب أجلي .. فوالله تلكم الساعة افكّر ، عمّا ذهبَ واستشكل . او سار على مذهب .. ما اعرفه أني غير مرغب .. فيه او به وعليه .. اتوسّل فلا تنفع الوسيلة يومئذٍ إلا بعمل كنزته ساعتئذ .. ليوم نحن فيه خالدون ، وعلى عدل الربّ عاملون ، لا فيه هنا ولا شيء هناك ، غير الذي بقَى او عدل وتزكّى .. لا مجال للتغابي .. ولا صُورة للغيابي .. وحده من يرى المرتاح بعينه ، باستقامة او بوجه يلتاح عنه .. هو من يعْلم خائنة الاعين ، هو من ينصف ، هو من يقبل .. وما انا إلا جسدٌ لا يعمل ، فلا يدٌ باطشة ولا لسان قارفة.. ولا مُجادلة أبغي ولا مُعادلة أنوي .. إلا الفوز بالجنة قاصداً وعن كل غُنّة او رسمٍ وفناً هارباً.!
    أختي الفاضلة .. كتبتُ لك هذه الصورة ، لاني إن شاء الله سأعمل قصصة وحكايات على نفس النمط .. فهل من ملاحظات استقرأها منك . بالطبع ما كتبته تجريب غير موثق .. فهل ترينَ بأساً به .. كي اقترب مما به .. فانا على منواله راغب .. وعلى طريقته ذاهب .. فإن كانت ملاحظاتكم قائمة ، وبكل رد فاهمة ، فاعطني رايك هذا .. وابسطيه كما لو كان ماذا .؟ حتى يرى القُراء ملاذا .. وكلاماً واماناً .. وعلماً نافعاً وسلاماً .
    قرأت ردة اختيارك على الموضوع ( القصة ) وما اخترتيها من عبارات .. وإن لاشكرك جزيل الشكر على وقفتك معي .. واتمنى ان تستمر .. مع النقد الذي استفيد منه .. والله اسأله ان يحفظك ويُلهمك اخلاقاً وطيبة ,إنسانية ومعرفة وثقافة وعلماً جميلاً تنفعي به نفسك والاخرين .
    اما بالنسبة لعبارة ( قدّامي ) واستبدالها بعبارة ، أمامي ، ذلك على حسب الجملة وطريقة نشأتها ، والكلمة قُدّامي عربية صحيحة .. %
    أما بالنسبة .. تشوف بعينين .. لا استطيع الجزم بها او تأكيدها مالم تقومين بإعادة الجملة كاملة .. وانا ليس لدي الوقت الان ، واقول الان .. لاعادة تصويبها .. لكني سأفعل غداً او بعد غد ، إذا ذكرتينني بها .. والله اسأل ان يحفظك ويرعاك .. ويقوّي ما فيك . ويزيد من نشاطك وهِمّتك ، ويُبعدك عن شحن غُمتك . لتكوني قريبة صابرة ، وعلى سؤل المرتاح عابرة .
    وشكراً




    التعديل الأخير تم بواسطة المرتاح ; 22-11-11 الساعة 12:57 PM
    لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
    لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
    الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!


صفحة 5 من 9 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •