روزاليندا

فتحتْ النافذة ، وأخذتْ تراقب الغيوم التي ترسم السماء ، وتلك الزقزقة التي تسمع صداها من بين الأشجار ،فهبَّ عليها نسيم عليل نثر خصيلات شعرها على وجهها ،فأزاحتها بيديها ،ثم تنفستْ عميقا وأخرجته زفيرا طويلا كأنما خرج معه قمع الحنين والألم . رجعتْ إلى الخلف وجلستْ على منضدتها ،أمسكتْ بحبرها ، واستلمتْ أوراقها ،وأخذتْ تسطر :"
إلى العزيزة " جولييت " مع التحية
لم أعهد في نواميس الحياة أن الصداقة مجرد كلمة عابرة نطلقها ،بل هي كلمة مقدسة لمن ذاق العيش بمدينتها . أيتها الغالية إنني ومع شروق شمس كل صباح أستبق الريح إلى صندوقي البريدي متأملة فلعل ساعي البريد قد حمل ظرفا منك إليَّ يطمئنني عنك ولكن هيهات هيهات ،أرجع دائما خائبة الأيدي والآمال ، لا شيء .وعلى الرغم من ذلك فإنني أزرع بذور الأمل في نفسي حتى لا يتسلل اليأس فيطغى عليَّ فلا أجد مخرجا من الحزن . ها قد مرت الشهور وانتهى عام كامل ونحن الآن في ديسمبر ولا تلبث هذه الأيام إلا أن تسرع فأستيقظ على منبه التاريخ بأننا قد انتهينا من هذا العام أيضا ، لقد كتبت هذه السطور أذكرك بتلك المواثيق التي نسجتها أيدينا منذ أن كنا في رياض الأطفال ، ووقعنا بأصابعنا بأننا باقون على العهد مهما تغيرت صروف الدهر .أتذكرين ؟ ،لا أعتقد أن هذه الذكريات أصبحت بالنسبة لك في طي النسيان ، فدعيني أسألك ما الذي جعلك تنقطعين عن مراسلتي ؟ أهو تصرف بدر مني فجعلك تنفرين ؟ أم كلام قلته عن غير دراية فسقط في قلبك كالسهم ؟
انظري إلى مواثيق الصداقة إنها لا تسمح لأي سبب بأن يفك عرى الأخوة التي بيننا ، فلماذا ابتدأت أنت بهذا ؟
سؤال محير لم أجد له جوابا وأخال أنه لديك .
انتظر ردك بفارغ الصبر .
المرسلة :
" روزاليندا "
أنهت الرسالة ،ووضعتها في الظرف ،ثم أخذت معطفها متجهة نحو مكتب البريد ،ثم رجعت إلى المنزل ووقفت هنيهة تنظر لصندوق البريد متسائلة " ترى هل سأرى ردا خلال الأيام القادمة ؟" ثم دخلت . مرت سبعة أيام تلاها أسبوع كامل ولا يوجد شيء ،أجزمت فيما بينها بأنها لن تجد ردا حتى في الأيام التالية المتبقية من هذا الشهر . وفي صبيحة يوم السبت استيقظت روزاليندا وهبطت من الدرج نحو المطبخ لتتناول طعام الفطور ، وإذا بطارق يطرق جرس المنزل ، تعجبت روزاليندا وقالت :" ترى من الزائر لا أعتقد أنني اليوم على موعد مع أحدهم ؟" .مشت بخطواتها نحو الباب ، وفتحته ، ثم توقفت ورجع بها الزمان لحظة إلى الوراء إلى شريط الذكريات ، إلى تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تلعب معها وتمرح ، تذكرت وهما تركضان وتلهوان بالأرجوحة ،ثم تنبهت بصوت دافئ يقول لها :" كيف حالك يا روزا ؟" .تمعنت روزاليندا لبريق عيني الجالسة أمامها ، تسترجع ملامحها متعجبة تُتمتم :"إنها تشبه جولييت تماما " ، ولكن الفتاة التي أمامها مقعدة على كرسي متحرك ، تمتمت مرة أخرى :" ولكن كيف ؟" ، فقالت الفتاة :" هاأنذا يا روزاليندا ها أنا جولييت أمامك ،مقعدة على هذا الكرسي "، فاغرورقت عيناها ، فلم تلبث روزاليندا صارخة :"جولييت " ، وتعانقتا بدموع تذكرهما بذلك الماضي التليد ،ثم دخلتا إلى الداخل . هرولت روزا وأحضرت الشاي والبسكويت والحلويات ،و قعدت بجانب جولييت . نظرت جولييت إلى صديقتها وابتسمت :" ألا زلت تتناولين هذا البسكويت يا روزا ؟ " ، قالت روزا مبتسمة :" ولن أتوقف عن تناوله لأنه يذكرني بأيام جمعت بيننا يا جولييت " ، ثم أعطت لجولييت كوب الشاي والبسكويت ، وأخذت تحدق فيها مندهشة فبعض ملامح جولييت متغيرة هناك خدوش متناثرة على وجهها القمري ." أعلم أنك متعجبة يا روزا وتتساءلين عما حدث لي ؟ولماذا أنا مقعدة ؟ ولماذا لم أجب عن رسائلك التي كنت ترسلينها إليَّ ؟" ،سكنت أفكار روزا ولم تعقب بكلمة ،ثم أردفت جولييت قائلة :" لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم ، فلم تزل تبعاته موجودة إلى الآن . استيقظت ذلك الصباح لأذهب إلى العمل ،و أخذت حقيبتي وركبت السيارة متجهة إلى مقر عملي ، كان الصباح هادئا ، فهناك الأطفال الذاهبون للروضة وغيرهم إلى المدارس ، وأولئك الرجال الذاهبون إلى أعمالهم وكل شيء يجري بشكل طبيعي . فإذا بي وقد كنت على مقربة من عملي أفاجأ بسيارة عالية السرعة لم أستطع أن أتفاداها " ،أغلقت عيناها وهي تستنشق نفسا عميقا ثم قالت :" كانت لحظة مروعة وأليمة ، فلقد تصادمت سيارتي مع سيارة ذاك السائق ، الذي توفى وبقيت أنا في العناية المركزة بالمستشفى لعدة أسابيع بسبب الغيبوبة وبعد شهر استيقظت ، ورأيت نفسي وأنا مغطاة بالشاش الأبيض من بداية رأسي حتى أسفل قدماي وتلك الأجهزة المحيطة بي ، فضغطت على الجرس فأتت الممرضة ، وعندما رأتني هرولت ، فجاء الطبيب وأخذ يفحص نبضي ،ومن بين آلامي أطلقت صوتا خافتا وسألته عما حدث لي فسرد عليَّ ما سرد .وبقيت في المستشفى شهرا أتعالج من الجروح والكدمات التي حلَّت بي ، فإنما أنا معجزة إلهية إذ نجوت من ذاك الحادث المأساوي ، وعندما تعافيت سألت الطبيب بأنني لا أحس بقدماي ، ولا أستطيع تحريكهما أبدا ، فأطرق الطبيب رأسه قليلا ثم قال :" أنا آسف لقول هذا يا جولييت ولكنك لن تتمكني من المشي مرة أخرى ، لا تنسي أنك نجوت من الحادث بأعجوبة بالغة .إن قدماك قد أصابهما شلل دائم ولن تستطيعي إلا أن ترتكزي على الكرسي ، ومن الغد ستبدأ الممرضة بتمرينك على استعمال الكرسي لأنك ستستخدمينه من الآن فصاعدا ". صُعقتُ وكأنما سكب أحدهم على رأسي ماء قارس البرودة ، ثم شرعتُ في البكاء ، فقال الطبيب :" لا تفقدي الأمل يا جولييت فهناك الكثير من المرضى الذين تجاوزوا صعوبات الحياة بنجاح رغم إصابتهم بإعاقات مختلفة ومريرة ، عليك أن تتحلي بالأمل ، وأن تمارسي حياتك بشكل طبيعي كما كنت من قبل " . أحسست ببرد هذا الكلام في جوفي ، وبعدها بأيام عدت إلى المنزل ووجدت صندوقي البريدي مملوء بالرسائل ،أخذتها وبدأت في قراءتها كانت معظمها مرسلة منك ، لم أتمالك نفسي فبكيت لأنني لن أستطيع أن أكون معك بعد الآن فأنا فتاة عاجزة ،لهذا لم أرسل أي رد حتى يتسنى لك أن تنسيني ولكن على الرغم من ذلك فإنني كنت ألازم النظر إلى صندوقي البريدي أنتظر رسائلك بشوق ولهفة. وهكذا مرت الأيام ، واعتدت على هذا الوضع الذي أنا به الآن ، وعندما وصلتني رسالتك الأخرى قبل أسبوعين بكيت ولم أستطع فأتيت وها أنا ذا أمامك الآن " . التفتت جولييت إلى روزاليندا فإذا عيناها تسيل دموعا فرحا بلقاء جولييت بعد زمن طويل ،و حزنا على ما أصابها ،فقالت روزاليندا :" إنني أعذرك يا عزيزتي إذ لم تجيبي على رسائلي ، وسامح الله ذلك الرجل المتهور الذي حلق بسيارته متناسيا حقوق الطريق ومستخدميه ، فأدى بنفسه للهلاك ، وأوجع قلوب المصابين ، وإنني لأحمد الله أن جمعنا مرة أخرى ، فالإعاقة لن تكون أبدا سببا يعجزنا عن الوصول لطموحاتنا ،أو تحقيق أحلامنا ،و العيش في هذه الحياة ببراءة وحرية ، وستظل حبال الأخوة بيننا مهما تحول الزمان وفعل بنا ما يفعل " .
هكذا أنهت روزاليندا الحوار ، ومعها أشرقت روح الأمل في نفس جولييت بأنها لازالت تحتل المكانة العزيزة في قلب صديقتها ورفيقة دربها " روزاليندا " .